يبرر القرآن المسؤولية الأخلاقية للإنسان بناءً على الإرادة الحرة، الهداية الإلهية، ونظام العدل والثواب والعقاب. فالإنسان، لقبوله الأمانة الإلهية وامتلاكه فطرة إلهية، كائن حر ومسؤول عن أفعاله.
الإجابة على سؤال "كيف يبرر القرآن المسؤولية الأخلاقية للإنسان؟" هي الغوص في أحد الجوانب الأساسية والعميقة للنظرة الكونية الإسلامية. يوضح القرآن الكريم، من خلال تفصيله الدقيق لمكانة الإنسان في الوجود وعلاقته بالخالق، الأسس الشاملة والعميقة للمسؤولية الأخلاقية. يستند هذا التبرير إلى عدة ركائز مترابطة، يكمل كل منها الآخر، وتقدم مجتمعة صورة واضحة لكيفية محاسبة البشر على أفعالهم. 1. الإرادة الحرة (الاختيار): أساس المسؤولية الأخلاقية الركيزة الأكثر أهمية للمسؤولية الأخلاقية في القرآن هي منح الإنسان الإرادة الحرة. يذكر القرآن صراحة أن الإنسان ليس كائناً مجبراً ولا فاقداً للاختيار؛ بل يمتلك القدرة على الاختيار بين الخير والشر، الهدى والضلال. إن القدرة على الاختيار هذه هي التي تمنح المسؤولية معناها. لو كان الإنسان فاقداً للإرادة الحرة وتصرف كآلة أو كائن مبرمج، لما كان هناك أي معنى للمسؤولية أو الثواب أو العقاب. يؤكد الله هذه الحقيقة في آيات عديدة، منها سورة الكهف، الآية 29، حيث يقول: "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (وقل: الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). تشير هذه الآية بوضوح إلى أن طريق الاختيار مفتوح للإنسان. تمثل هذه الإرادة الحرة اختباراً عميقاً للبشر، يسمح لهم بالكشف عن طبيعتهم الحقيقية وإظهار ما إذا كانوا يصغون إلى نداء فطرتهم الإلهية أو يستسلمون للشهوات الدنيوية والوساوس الشيطانية. الإنسان حر في اختيار طريقه بوعي وبصيرة، وهذا الاختيار هو الذي يحدد مصيره في الدنيا والآخرة. تنبع المسؤولية الأخلاقية من هذه الحرية؛ لأن الكائن الوحيد القادر على الاختيار هو الذي يمكن أن يكون مسؤولاً عن عواقب اختياراته. لو لم يكن البشر مسؤولين، لأصبح الهدف من الخلق وإرسال الأنبياء والكتب السماوية بلا معنى. تحدد هذه الإرادة الحرة كرامة الإنسان وتميزه عن سائر المخلوقات. إن القدرة على اتخاذ القرارات، والتفكير في العواقب، واختيار الطريق الصحيح أو الخطأ، هي خاصية بشرية فريدة تمهد الطريق للمساءلة. 2. الهداية الإلهية وإتمام الحجة: التوجيه نحو المسؤولية بعد منح الإنسان الإرادة الحرة، لم يتركه القرآن وحده؛ بل لضمان أن تكون مسؤوليته الأخلاقية قائمة على الوعي التام والحجة الكاملة، قدم له الإرشادات اللازمة من خلال الوحي والأنبياء والكتب السماوية. يذكر الله أنه لا يعذب قوماً أبداً حتى يرسل إليهم رسولاً يوضح لهم طريق الحق والباطل: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا" (الإسراء، الآية 15). يعني هذا "إتمام الحجة" أن البشر لا يمكنهم أن يحتجوا يوم القيامة بأنهم لم يعرفوا الطريق أو كانوا غير مدركين لواجباتهم. يعمل القرآن كضوء يوضح الطريق الصحيح ويوضح المعايير الأخلاقية. تشمل هذه الهداية القوانين والقيم والقصص العبرة والتشجيع على الأعمال الصالحة والنهي عن السيئات. مع هذه الهداية الواضحة، تتضاعف مسؤولية الإنسان في العمل بها. بعد تلقي هذه الإرشادات، لم يعد البشر جاهلين، ويختارون بوعي ما إذا كانوا سيتبعون هذا النور أو يبقون في الظلام. هذه الهداية لا تظهر الطريق فحسب، بل توفر أيضاً معياراً لتقييم الأفعال. لذلك، فإن تبرير المسؤولية الأخلاقية للإنسان في القرآن لا يقوم على مجرد الإرادة الحرة، بل يقوم على الإرادة الحرة المصحوبة بالوعي الكامل والهداية الإلهية. 3. العدل الإلهي ونظام الثواب والعقاب: عواقب المسؤولية ركيزة أخرى تبرر المسؤولية الأخلاقية هي النظام الإلهي العادل للثواب والعقاب. يؤكد القرآن مراراً أن الله لا يظلم أحداً، ولا حتى بمقدار ذرة، وأن كل شخص سيرى نتيجة أعماله: "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۥ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ۥ" (الزلزلة، الآيتان 7 و 8). يضمن هذا النظام الدقيق عدم إغفال أي عمل. المسؤولية الأخلاقية هنا تعني قبول عواقب أفعال المرء. باختياراتهم، يزرع البشر بذور أعمالهم وسيحصدون ثمارها في الآخرة (وأحياناً حتى في هذا العالم). يدفع هذا النظام البشر نحو الخير ويمنعهم من الشر. لو لم يكن هناك عدل إلهي، لكانت المسؤولية الأخلاقية بلا معنى، حيث لن يكون هناك فرق بين الأعمال الجيدة والسيئة. يوضح القرآن أن كل شخص يتحمل عبء مسؤوليته الخاصة، ولن يتحمل أحد عبء خطيئة الآخر: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ" (فاطر، الآية 18). يوضح هذا المبدأ المسؤولية الفردية، مبيناً أن كل إنسان مسؤول مباشرة عن أفعاله. يدفع هذا النظام البشر إلى التفكير في العواقب طويلة الأمد لأفعالهم ويوفر لهم حافزاً قوياً لاختيار الطريق الصحيح. 4. الأمانة الإلهية: ثقل المسؤولية في سورة الأحزاب، الآية 72، يتحدث القرآن عن "أمانة إلهية" رفضت السماوات والأرض والجبال حملها، لكن الإنسان قبلها: "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ۖ إنه كان ظلوماً جهولاً). فسر المفسرون هذه الأمانة بمعانٍ مختلفة، بما في ذلك "التكليف"، و"الخلافة الإلهية"، و"العقل"، و"الاختيار". قبول هذه الأمانة يعني قبول المسؤولية أمام الله والاستخدام الصحيح للنعم الإلهية. بقبول هذه الأمانة، يكون الإنسان قد قبل بالفعل العبء الثقيل للمسؤولية. تشير هذه الآية إلى أنه بسبب خصائصه الفريدة، كان لدى البشر القدرة على تحمل هذه المسؤولية الهائلة، وهذا القبول نفسه يبرر مسؤولياتهم الأخلاقية اللاحقة. إن وصف الإنسان بأنه "ظلوم وجهول" في هذه الآية لا يعني أن الإنسان بطبعه ظالم وجاهل، بل يشير إلى قدرته على إساءة استخدام هذه الأمانة وجهله في فهم أبعادها الحقيقية؛ وإلا كيف كان يمكنه أن يحملها؟ تؤكد هذه الآية على عظمة وثقل مسؤولية الإنسان وتسعى إلى إيجاد الأساس الوجودي للمسؤولية الأخلاقية في طبيعة الإنسان الفطرية وعهده الأولي مع الله. 5. خلق هادف وفطرة إلهية: استيعاب المسؤولية لا يعتبر القرآن خلق الإنسان عبثاً أو بلا هدف: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات، الآية 56). لا تعني العبادة هنا مجرد الطقوس، بل تشمل طاعة الأوامر الإلهية والعيش حياة أخلاقية في جميع أبعادها. يمنح هذا الهدفية معنى واتجاهاً لأفعال الإنسان ويجعل المسؤولية الأخلاقية جزءاً لا يتجزأ من هدفه الوجودي. علاوة على ذلك، يمتلك البشر فطرة إلهية، مما يعني أن الميل إلى الحق والخير متأصل في كيانهم: "فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" (الشمس، الآية 8). هذا الإلهام الداخلي والقدرة على تمييز الخير من الشر يمثلان مبررين إضافيين للمسؤولية الأخلاقية. بفضل فطرتهم، يمكن للبشر تمييز الصواب من الخطأ، حتى في غياب التوجيه الخارجي. هذه الفطرة هي نور داخلي يدعو البشر إلى الخير ويحذرهم من الشر. تنبع المسؤولية الأخلاقية من واجب البشر في إبقاء هذه الفطرة حية وعدم قمعها بالخطيئة والغفلة. باختصار، يعتبر القرآن المسؤولية الأخلاقية للإنسان ليست مجرد أمر خارجي، بل نتيجة منطقية للإرادة الحرة، والهداية الإلهية، والعدل الإلهي، وقبول الأمانة، والطبيعة الهادفة للخلق. هذه المسؤولية الداخلية والخارجية، الفردية والاجتماعية، توجه البشر نحو الكمال والسعادة الحقيقية. بهذا النهج الشامل والمنهجي، يصور القرآن الإنسان ككائن واعٍ، حر، ومسؤول عن أفعاله، وأن مستقبله، هم في الدنيا وهم في الآخرة، به کیفیت همین اعمال و انتخابهای اخلاقی او بستگی دارد. يوضح هذا التبرير الشامل والمنهجي بوضوح عمق وأهمية الأخلاق في الإسلام.
كان هناك ملك قوي، على الرغم من عظمته، لم يشعر بالسلام الداخلي. زاره درويش حكيم ذات يوم. سأل الملك: "كيف يمكن للمرء أن يجد السلام الحقيقي وسط هذه السلطة والمسؤولية الكبيرة؟" أجاب الدرويش: "السلام لا يوجد في غياب المسؤولية، بل في إنجازها بالعدل واللطف، مع العلم أن كل عمل، كبيراً كان أو صغيراً، يوزن في موازين الأبدية. فسيأتي يوم يقف فيه كل ملك، مثل كل فلاح، للمحاسبة." تأثر الملك بهذه الكلمات، وبدأ يحكم بمزيد من العدل، مدركًا أن سلطته كانت أمانة، وأن خياراته الأخلاقية هي إرثه الحقيقي.