للبقاء عادلًا في الظروف الجائرة، يجب الاعتماد على تقوى الله، الصبر والثبات، ومعاملة الظالمين بالإنصاف، وعدم فقدان الثقة بالله.
البقاء على طريق العدالة في عالم يسوده الظلم أحيانًا، يُعد أحد أكبر التحديات الروحية والأخلاقية للإنسان، خاصة للمؤمن الذي يقوم إيمانه على العدل الإلهي. القرآن الكريم، بصفته كلام الله الهادي، يقدم حلولًا عميقة وشاملة لمواجهة هذه الظروف، ليتمكن الإنسان من الثبات على معيار العدل الإلهي دائمًا، حتى عندما يحيط به الظلم والجَوْر. هذه المسألة لا تعني مجرد عدم ارتكاب الظلم، بل تعني الوقوف بنشاط من أجل العدالة والإنصاف في كل الظروف، حتى لو كان الطرف الآخر ظالمًا أو بدت الظروف تتطلب من الإنسان الانحراف عن طريق العدل. هذا الطريق يتطلب بصيرة وصبرًا وثباتًا وتوكلًا مطلقًا على الله تعالى. الركن الأول والأهم للحفاظ على العدالة في الظروف الجائرة هو "التقوى" والعبودية لله. يؤكد القرآن مرارًا على التقوى؛ فالتقوى تعني تجنب المعاصي والسعي لأداء ما أمر الله به، مع الوعي الدائم بمراقبة الله وعلمه. عندما يعلم الإنسان أن الله مطلع على جميع أعماله وأن عدالته مطلقة، فإنه لا يتخلى عن العدل، حتى في الخفاء أو عند مواجهة إغراءات الظلم. هذا الوعي الداخلي بالله يمنح الإنسان قوة يتحرر بها من ميوله النفسية، أو الأحقاد، أو حتى الضغوط الخارجية للقيام بالظلم. في سورة النساء، الآية 135، يقول الله صراحة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا". هذه الآية تبين أن العدل يجب أن يُراعى حتى ضد الأقارب والمصالح الشخصية، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بالاعتماد على الوعي بحضور الله والتوكل عليه. السبيل الثاني الأساسي هو "الصبر" و"الاستقامة". في الظروف الظالمة، قد يشعر الفرد باليأس، أو الغضب، أو الميل إلى الانتقام الظالم. لكن القرآن يأمر المؤمنين بالاستعانة بالصبر والصلاة (سورة البقرة، الآية 153). الصبر هنا لا يعني الاستسلام للظلم، بل يعني الثبات والاستقامة على الحق والعدل، حتى في مواجهة الصعاب والضغوط. يساعد هذا الصبر الإنسان على الحفاظ على هدوئه أمام استفزازات وظلم الآخرين، والرد بالمنطق والحكمة لا بالغضب والعواطف. الاستقامة تعني الثبات على المبادئ والقيم الإلهية، حتى عندما يدعو المجتمع أو الظروف الإنسان إلى المساومة مع الظلم. هاتان الصفتان تمكنان الإنسان من عدم الانحراف عن طريق الحق ومقاومة أمواج الظلم. المبدأ الثالث هو "عدم مقابلة الظالمين بظلم مماثل". يعلمنا القرآن أن كراهية قوم أو جماعة لا ينبغي أن تمنعنا من إقامة العدل. في سورة المائدة، الآية 8 جاء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ". هذه الآية تقدم معيارًا ذهبيًا للحفاظ على العدالة في ظروف العداء والجور. وهذا يعني أنه حتى لو تعرضت للظلم، فلا يحق لك أن تخرج عن طريق العدل وتظلم الظالم. مقابلة الظلم بظلم آخر تستمر حلقة الظلم وتجعلك شريكًا فيها. العدل يعني احترام حقوق الجميع، حتى أولئك الذين انتهكوا حقوقك. هذا المبدأ يظهر عظمة وسمو المعايير الأخلاقية في الإسلام، ويحمي الإنسان من السقوط في هاوية الانتقام واللاأخلاقية. الاستراتيجية الرابعة هي "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ولكن مع مراعاة مبادئ الحكمة والموعظة الحسنة. هذا يعني أنه لا ينبغي للمؤمن أن يكون سلبيًا في مواجهة الظلم، بل يجب عليه أن يسعى لإصلاح وإقامة العدل قدر استطاعته. يمكن أن يشمل ذلك الشهادة للحق، والنصيحة، والتذكير، وحتى الاحتجاج السلمي. لكن هذا الجهد يجب أن يكون قائمًا على العدل والمبادئ الأخلاقية، وليس على العنف أو العدوان. يحذرنا القرآن من الركون إلى الظالمين (سورة هود، الآية 113)، لأن ذلك قد يؤدي إلى المشاركة في آثامهم. لذلك، الحفاظ على المسافة عن دوائر الظلم وعدم تأييدهم، هو جزء من الحفاظ على العدالة الشخصية. النقطة الخامسة هي "مقابلة السوء بالحسنى" في الحالات التي تكون فيها هذه الطريقة ممكنة وفعالة. يقول القرآن في سورة فصلت، الآية 34-35: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ". هذا المبدأ هو منهج تربوي وأخلاقي لحل النزاعات والحد من الظلم. في بعض الأحيان، أفضل طريقة لتحييد الظلم هو الرد بالعدل والإحسان الذي يمكن أن يلين قلب العدو ويفتح الطريق للسلام والعدل. وأخيرًا، "التوكل على الله" والثقة في عدله المطلق يوفر الطمأنينة واليقين اللازمين لمواصلة الطريق. حتى لو لم يتمكن الإنسان من إقامة العدل الكامل في الدنيا أو استعادة حقوقه بالكامل، فإن المؤمن يعلم أن الحساب النهائي بيد الله، وهو خير الحاكمين. هذا التوكل ينجي الإنسان من اليأس والإحباط، ويحفزه للبقاء دائمًا على طريق العدل، على أمل أن يجزيه الله على ذلك في الدنيا والآخرة. هذه النظرة لا تحافظ على العدل الخارجي فحسب، بل تضمن العدل الداخلي والسلام الروحي أيضًا.
يُروى أن رجلًا حكيمًا وحسن السيرة عاش في زمن ابتعد فيه الكثيرون عن طريق الإنصاف. في يوم من الأيام، تعرض للظلم وسُلبت ممتلكاته بغير حق. طلب منه أصحابه أن يتصرف بنفس الطريقة التي عومل بها لاستعادة حقه. لكن الرجل، بابتسامة هادئة، قال: «إذا أردتم أن تعرفوا من أنا، فانظروا إليّ في غضبي لا في ثروتي. إن الظالمين يأكلون أنفسهم، والعدالة الإلهية لا تنام أبدًا. كيف لي أن أرد الظلم بظلم وأجعل نفسي شريكًا في الجور؟ سأظل ثابتًا على طريقي في العدل، لأن هدوء القلب يكمن في ذلك، والثواب الحقيقي عند الرب». وهكذا، بهدوء وثبات، لم يقتصر الأمر على بقائه عادلًا فحسب، بل أصبح قدوة للآخرين.