يرى القرآن الكريم واجب الإنسان تجاه الطبيعة كأمانة ومسؤولية. يجب على الإنسان تجنب إحداث الفساد والإخلال بالتوازن الإلهي في الأرض، والحفاظ على نعم الطبيعة بشكرٍ للأجيال القادمة.
في القرآن الكريم، لا تقتصر واجبات الإنسان تجاه الطبيعة على كونها مسؤولية أخلاقية فحسب، بل هي جزء لا يتجزأ من الإيمان والخضوع لله. إن نظرة القرآن للطبيعة ليست مادية أو أداتية بحتة؛ بل ينظر إليها كخلق من خلق الله وآيات وعلامات على قدرة الله وحكمته ورحمته. لقد وُصِفَ الإنسان بأنه "خليفة الله" أو خليفة الله في الأرض (سورة البقرة، الآية 30). هذا المقام الرفيع لا يمنح الإنسان السلطة والسيطرة على العالم فحسب، بل يفرض عليه مسؤولية عظيمة. فالخلافة لا تعني الملكية المطلقة، بل تعني الأمانة والإدارة السليمة للموارد الإلهية. في هذا الدور، يُلزم الإنسان بالتعامل مع الطبيعة بالعدل والإحسان، بحيث يلبي احتياجاته دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها. يؤكد القرآن مرارًا وتكرارًا أن الله قد خلق كل شيء بنظام وتوازن دقيق. هذا التوازن (الميزان) في الخلق هو مبدأ أساسي مكلف به الإنسان للحفاظ عليه. في سورة الرحمن، الآيات 7-9، يقول الله تعالى: "وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)". هذه الآيات تدعو الإنسان رمزيًا إلى الحفاظ على التوازن في كل الأمور، بما في ذلك تفاعله مع الطبيعة. أي تدمير أو إساءة استخدام للموارد الطبيعية يعتبر إخلالًا بهذا التوازن الإلهي وتجاوزًا للميزان، مما يؤدي إلى عواقب وخيمة. أحد المفاهيم المحورية المتعلقة بواجب الإنسان تجاه الطبيعة هو "النهي عن الفساد في الأرض". تنهى آيات عديدة صراحة عن إحداث الفساد في الأرض. في سورة الأعراف، الآية 56، جاء: "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ". توضح هذه الآية بجلاء أن الأرض قد خُلِقَتْ مُصلَحةً ومنظَّمةً، وأي عمل تخريبي من جانب الإنسان يعتبر فسادًا وإخلالًا بالنظام الكوني. يمكن أن يشمل الفساد في الأرض تلوث المياه والهواء، وتدمير الغابات، والقضاء على الأنواع النباتية والحيوانية، وأي شكل من أشكال سوء الاستخدام الذي يؤدي إلى اختلال التوازن البيئي وتلفه. القرآن لا يدين هذه الأفعال أخلاقيًا فحسب، بل يعتبرها ذنبًا ومخالفة لرضا الله. علاوة على ذلك، يتحدث القرآن بغزارة عن نعم الله في الطبيعة ويدعو الإنسان إلى التفكر والتدبر فيها. من نزول المطر وإنبات النباتات، إلى حركة السفن في الماء وتسخير الحيوانات للإنسان (على سبيل المثال، سورة النحل، الآيات 10-14). هذه الآيات ليست فقط لتذكير الإنسان بقدرة الله ورحمته، بل لغرس شعور بالامتنان والمسؤولية تجاه هذه النعم. لا يتحقق شكر النعمة باللسان فقط، بل بالاستخدام السليم والحفاظ على هذه النعمة. من يدمر نعم الله أو يلحق بها الضرر، يكون في الواقع جاحدًا ومستحقًا للعواقب. مبدأ قرآني آخر في التعامل مع الطبيعة هو تجنب "الإسراف" و"التبذير". في سورة الأعراف، الآية 31، نقرأ: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ". هذا المبدأ لا ينطبق على الأكل والشرب فحسب، بل يسري أيضًا على استغلال جميع الموارد الطبيعية. فالاستهلاك المفرط للمياه والطاقة والموارد الأخرى، وكذلك إنتاج النفايات غير الضرورية والملوثة، كلها تندرج تحت مفهوم الإسراف الذي ينهى عنه القرآن بشدة. ويصرح القرآن بأن ما يظهر من فساد وخراب في البر والبحر هو نتيجة أعمال الإنسان نفسه. في سورة الروم، الآية 41، جاء: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ". هذه الآية بمثابة تحذير جاد يشير إلى أن الأزمات البيئية الحالية هي نتيجة مباشرة لسلوك الإنسان غير المسؤول. والهدف من هذه المعاناة والمشاكل هو أن يعود الإنسان إلى الطريق الصحيح ويصلح سلوكه. في الختام، يمكن القول إن واجب الإنسان تجاه الطبيعة، من منظور القرآن، هو واجب شامل ومتعدد الأبعاد. يجب على الإنسان أن يرى نفسه ليس مالكًا، بل أمينًا ومسؤولًا. احترام الطبيعة، والحفاظ على التوازن البيئي، وتجنب كل أشكال الفساد والتدمير، والشكر على النعم الإلهية من خلال الاستخدام السليم والمعتدل، والتفكر في آيات الله في الخلق، كلها مبادئ أساسية لهذا الواجب. يرشد القرآن الإنسان نحو حياة مستدامة ومسؤولة، حيث الانسجام مع الطبيعة هو جزء لا يتجزأ من الانسجام مع الإرادة الإلهية. يوفر هذا المنظور أسسًا لأخلاق بيئية قوية ومتأصلة يمكن أن تمهد الطريق لحل العديد من التحديات البيئية اليوم. إن الحفاظ على البيئة، من وجهة نظر القرآن، ليس خيارًا، بل هو واجب ديني وإنساني تتوقف عليه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. فالمؤمن الحقيقي ليس فقط مجتهدًا في عباداته الفردية، بل يظهر أيضًا أقصى درجات المسؤولية في تفاعله مع محيطه، ويسعى جاهدًا للحفاظ على جمال ونعم الله على الأرض. هذه النظرة تتجاوز المصالح قصيرة الأجل، وتولي أهمية للاستدامة طويلة الأجل وصحة نظام الخلق بأكمله.
يُروى أن أنوشيروان العادل، الملك الحكيم والمنصف، كان في إحدى رحلاته. وصل إلى قرية يشرب أهلها من عين ماء صافية، تحيط بها أشجار قديمة تلقي بظلالها. فقال له رجل من كبار القرية: "أيها الملك، في الماضي كانت هنا بستان فواكه غزير، لكن رجلًا طماعًا قطع جميع الأشجار ليبيع خشبها، فأصاب الأرض بالجفاف. الآن لا نستفيد إلا من هذه العين." فحزن أنوشيروان لذلك وقال: "إن مثل هذا الشخص الذي يدمر نعمة دائمة من أجل ربح عابر، يظلم نفسه والأجيال القادمة. الطبيعة أمانة في أيدينا، والحكيم هو من يستفيد منها ولا يفسدها." تذكرنا هذه الحكاية بأن القيمة الحقيقية تكمن في الحفاظ على ما أنعم الله به علينا وصيانته، لا في تدميره لتحقيق مكاسب عابرة.