لمواجهة المقارنة في وسائل التواصل الاجتماعي، يؤكد القرآن على الشكر والقناعة، والتركيز على الآخرة وتجاهل زينة الدنيا، وأهمية التقوى بدلًا من المظاهر. هذه التوجيهات تساعد الإنسان على تحقيق السلام الداخلي والرضا الحقيقي، والتحرر من الحسد والقلق.
في عالمنا المعاصر، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، وانتشرت ظاهرة 'المقارنة الاجتماعية' بشكل كبير. نحن نتعرض باستمرار لصور حياة تبدو مثالية، ونجاحات مبهرة، وممتلكات فاخرة للآخرين. هذه المقارنات، سواء بوعي أو بدون وعي، يمكن أن تثير فينا مشاعر الحسد، وعدم الرضا، والقلق، وحتى الاكتئاب. في مثل هذه البيئة، كيف يمكننا الحفاظ على سلامنا الداخلي والتحرر من فخ المقارنات؟ القرآن الكريم، بصفته كتاب الهداية الإلهية، يقدم حلولًا عميقة وأساسية لمواجهة هذه التحديات، حلول تتجاوز الزمان والمكان وتتناول جميع أبعاد الوجود الإنساني. هذه الحلول لا تحمينا فقط من أضرار المقارنة، بل توجهنا نحو حياة ذات معنى، ومرضية، ومليئة بالسلام الداخلي. أحد أهم المبادئ التي يقدمها القرآن لمواجهة المقارنة هو مبدأ الشكر والقناعة. يؤكد القرآن مرارًا على أهمية شكر النعم الإلهية. عندما ينظر الإنسان إلى ما يمتلكه، حتى أصغر الأشياء، بعين الشكر والامتنان، تنفتح أمامه أبواب الرضا والسلام. على النقيض من ذلك، فإن النظر إلى ما يمتلكه الآخرون والحسرة عليه يجعلنا نغفل عن نعمنا ولا نصل أبدًا إلى الرضا الحقيقي. يقول الله تعالى في القرآن: "وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا" (النساء: 32). هذه الآية تنهانا بوضوح عن تمني ما فضل الله به بعضنا على بعض، وبدلًا من ذلك، توصينا بأن نسأل الله من فضله. هذا يعني أن لكل فرد نصيبًا من كسبه وعمله، وقد قسم الله بحكمته الأرزاق والمواهب بين عباده. فهم هذه الحقيقة هو الأساس للقناعة والقبول بالقدر الإلهي. القناعة لا تعني التوقف عن السعي، بل تعني الرضا القلبي بما تملك وعدم الطمع فيما يملكه الآخرون. المبدأ الأساسي الثاني هو التركيز على الآخرة وتقليل قيمة زينة الدنيا الفانية. تعرض وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أساسي الجوانب المادية والظاهرية للحياة: المنازل الكبيرة، والسفر الفاخر، والملابس باهظة الثمن، والحياة المرفّهة. يحذر القرآن مرارًا وتكرارًا من أن هذا البريق الدنيوي خادع وزائل، وأن القيمة الحقيقية تكمن في ثبات الآخرة وأبديتها. يقول الله في سورة الحديد: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۚ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (الحديد: 20). تشبه هذه الآية بشكل رائع الطبيعة الزائلة والخادعة للحياة الدنيا بصورة مطر ينبت نباتات خضراء وجميلة، لكنها سرعان ما تصفر وتجف وتصبح حطامًا. يساعد هذا التفكير الإنسان على إعادة تعريف قيمه، وبدلًا من مقارنة نفسه بممتلكات الآخرين المادية، يسعى وراء قيم أكثر دوامًا وروحانية. عندما يتذكر الإنسان أن النجاح الحقيقي هو عند الله وفي الحياة الأبدية، تصبح المقارنات الدنيوية بلا معنى. ثالثًا، استراتيجية قرآنية أخرى هي التركيز على التقوى والقيم الداخلية بدلًا من المظاهر الخارجية. في المجتمعات الحديثة، غالبًا ما يتم تقييم الأفراد بناءً على الثروة، أو الجمال، أو الوضع الاجتماعي، أو عدد المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي. لكن القرآن يرفض هذه المعايير ويعتبر التقوى والقرب من الله المعيار الوحيد للتفوق. في سورة الحجرات، نقرأ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات: 13). هذه الآية توضح بجلاء أن أصل الإنسان وكرامته ليست في نسبه، ولا في ثروته، ولا في جماله، ولا في شهرته، بل في تقواه وورعه. التركيز على النمو الروحي والأخلاقي للشخص، بدلًا من التنافس مع الآخرين في المظاهر الدنيوية، هو طريق أكيد لتحقيق السلام الداخلي ورضا النفس. ويؤكد القرآن أيضًا على الاهتمام بالمسار الفردي والمسؤولية الشخصية. لكل إنسان مساره الفريد في الحياة، وقد قدر الله لكل شخص قدرًا واختبارًا خاصًا. التركيز على حقيقة أن "وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ" (النجم: 39) - أي أن الإنسان ليس له إلا ما سعى - يساعدنا على عدم إهدار طاقتنا في مقارنة أنفسنا بالآخرين، وبدلًا من ذلك، التركيز على تحسين وتطوير ذواتنا. نحن مسؤولون فقط عن أفعالنا وجهودنا، ولسنا مسؤولين عن المقارنة والحسد على ما يملكه الآخرون. هذا المنظور للحياة لا يمنع فقط الشعور بالنقص أو التفوق الزائف، بل يوفر أيضًا الدافع اللازم للنمو والتقدم في المسار الفردي. في النهاية، يعلمنا القرآن أن الهدف من الحياة هو الوصول إلى الطمأنينة والسكينة القلبية من خلال ذكر الله (الرعد: 28: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"). تقع المقارنة الاجتماعية تمامًا على النقيض من هذا السلام؛ لأنها تؤدي دائمًا إلى القلق والاضطراب والحسرة. بالالتجاء إلى ذكر الله، وبالتركيز على الشكر، وبفهم الطبيعة الزائلة للدنيا، وبإعطاء الأولوية للتقوى، يمكننا التحرر من فخ المقارنات اللانهائية لوسائل التواصل الاجتماعي والوصول إلى سلام حقيقي ودائم. يظهر لنا القرآن طريقًا، فيه تحل القيم الداخلية والروحية محل القيم الخارجية والمادية، ويقترب الإنسان من ذاته الحقيقية، وهي الروح الإلهية التي نفخت فيه. هذا هو طريق التحرر من قيود المقارنة والتحليق نحو الحرية والسلام الأبدي.
في زمان مضى، كان هناك رجل غني ومتبجح، كان يعرض ثروته وممتلكاته كل صباح على أهل السوق، ويتحدث بغطرسة عن أولئك الذين يملكون أقل منه. وفي نفس المدينة، في زاوية هادئة، عاش رجل بسيط ورع، معروف بقناعته وسلام قلبه. لم يكن لديه ثروة طائلة ولا رغبة في الشهرة؛ كان قلبه دافئًا فقط بذكر الله والشكر على نعمه اليومية. ذات يوم، قال الرجل الغني بسخرية للرجل الورع: 'يا درويش، ما خطبك وأنت جاهل بكل ملذات الدنيا وجمالها؟ انظر ما عندي وما عندك!' فأجاب الرجل الورع بابتسامة هادئة: 'يا صديقي، ما فائدة كل ما تملك وقلبك يتوق دائمًا إلى المزيد؟ أنا لست جاهلًا بما تملك ولا أنا متعلق به؛ فإن عين قلبي تتطلع إلى ما لا نهاية لم تره أنت بعد. القناعة كنز يرفع الفقر إلى مرتبة الملك، ويحرر القلب من قيود المقارنة. مال الدنيا ظل زائل، أما سلام القلب فنور أبدي لا يباع في أي سوق.' أثرت هذه الكلمات في قلب الرجل الغني، وجعلته يفكر بأن السعادة الحقيقية ربما لا تكمن في الممتلكات الخارجية، بل في الثراء الداخلي والرضا بالقدر الإلهي.