الحياة البسيطة وحدها لا تعني رضا الله، لكنها تهيئ بيئة مواتية لنمو التقوى وتجنب الإسراف. رضا الله يتحقق بالتقوى والأعمال الصالحة والاعتدال وعدم التعلق المفرط بالدنيا.
السؤال عما إذا كانت الحياة البسيطة مرادفة لرضا الله هو من المسائل العميقة والهامة في الرؤية القرآنية والإسلامية. للإجابة على هذا السؤال بشكل شامل، يجب أن نتناول بالتفصيل الجوانب المختلفة للتعاليم القرآنية المتعلقة بالدنيا والمال والقناعة والهدف النهائي لوجود الإنسان. بداية، يجب الإقرار بأن القرآن الكريم لا يذكر صراحة أن مجرد الحياة البسيطة أو الفقر يعني الرضا الإلهي الكامل، بل إن رضا الله يتوقف على عوامل متعددة ومتواصلة يمكن للحياة البسيطة أن تكون أحد الأسباب المساعدة في الوصول إليها، لكنها ليست شرطًا لازمًا ولا كافيًا. رضا الله في جوهره هو نتيجة للتقوى والإخلاص والأعمال الصالحة والشكر والصبر والعدل والاعتدال في جميع شؤون الحياة. إن القرآن الكريم ينهى بشدة عن الإسراف والتبذير. ففي آيات متعددة، حرم الله تعالى على الإنسان التجاوز في الاستهلاك والتبذير. على سبيل المثال، في سورة الأنعام، الآية 141، يقول الله تعالى: "...وَكُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" (وكلوا من ثمره إذا أثمر، وآتوا حقه يوم حصاده، ولا تسرفوا؛ إنه لا يحب المسرفين). هذه الآية تبين أن استخدام النعم مباح، ولكن ليس بطريقة مسرفة. الإسراف في الواقع هو الخروج عن حد الاعتدال وعدم الاهتمام بحقوق الآخرين، ونكران نعمة الله. ولذلك، فإن الحياة التي تتجنب الترف المفرط والاستهلاك المفرط تكون بطبيعة الحال أكثر توافقًا مع هذا الأمر الإلهي، ويمكن أن تؤدي إلى رضا الله. مثل هذه الحياة تحرر الإنسان من الانشغالات العابثة والمنافسات المادية التي غالبًا ما تؤدي إلى نسيان الهدف الأساسي من الخلق. بالإضافة إلى ذلك، يؤكد القرآن على عدم التعلق المفرط بالدنيا وزخارفها. وُصفت الدنيا في القرآن بأنها "متاع الغرور" (متاع الغرور) أو "لهو ولعب" (لهو ولعب). هذه الأوصاف لا تعني أن الدنيا بلا قيمة أو أنه يجب التخلي عنها تمامًا، بل تعني أنها لا ينبغي أن تكون الهدف النهائي للإنسان أو مصدر سعادته الرئيسي. ففي سورة الكهف، الآية 46، نقرأ: "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا" (المال والبنون زينة الحياة الدنيا؛ والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابًا وخير أملًا). هذه الآية تبين بوضوح أن القيمة الحقيقية تكمن في الأعمال الصالحة التي تبقى، لا في الثروة والأولاد التي هي مجرد زينة زائلة من الدنيا. فالحياة الأكثر بساطة تساعد الإنسان عادة على أن يكون أقل تعلقًا بالماديات ويركز أكثر على القيم الروحية والأخروية. هذا عدم التعلق هو في حد ذاته عامل مهم في رضا الله، لأنه يحرر الإنسان من عبادة المال ويوجهه إلى عبادة الله خالصة. مفهوم "القناعة" أيضًا ذو قيمة عالية جدًا في التعاليم الإسلامية. القناعة لا تعني الرضا بأدنى الاحتياجات وعدم الطمع أو الجشع في الدنيا، بل تعني الرضا بما قسمه الله من الرزق وعدم السعي وراء ما هو فوق القدرة أو الحاجة الحقيقية. قال النبي الأكرم (ص): "القناعة كنز لا يفنى". فالشخص الذي يختار حياة بسيطة ويقنع بها يظل بعيدًا عن القلق الناتج عن الطمع والحسد والمنافسة المادية. هذا الهدوء والرضا الداخلي هو في حد ذاته أحد مظاهر الرضا الإلهي في قلب العبد. والإنسان القانع هو دائمًا شاكر لنعم الله، حتى لو كانت هذه النعم قليلة، والشكر هو أحد الطرق الرئيسية لكسب رضا الله. ومع ذلك، من المهم أن نؤكد أن الإسلام لا يؤيد الرهبنة (الرهبانية)، التي تتضمن التخلي الكامل عن الدنيا والعيش في عزلة. ففي سورة الحديد، الآية 27، نقرأ: "...وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا..." (ورهبانيَّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها...). هذه الآية تبين أن الإسلام لا يوصي بالزهد المفرط والتخلي الكامل عن الدنيا الذي يؤدي إلى عدم المشاركة الفعالة في المجتمع وإهمال المسؤوليات الاجتماعية. الهدف هو التوازن بين الدنيا والآخرة. ففي سورة القصص، الآية 77، يقول: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ..." (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة؛ ولا تنس نصيبك من الدنيا؛ وأحسن كما أحسن الله إليك...). هذه الآية تعبر عن مبدأ أساسي: الاستخدام المشروع والمعتدل لمباهج الدنيا لتحقيق السعادة الأخروية ليس فقط جائزًا، بل هو مستحب. لذا، يجب ألا تعني بساطة الحياة التخلي عن العمل والاجتهاد وكسب الثروة الحلال، بل تعني عدم عبودية المال واستخدامه بطريقة صحيحة ومعتدلة في سبيل رضا الله. في الختام، إن رضا الله ليس مرتبطًا ببساطة الحياة أو ترفها، بل هو مرتبط بحالة القلب ونوايا الإنسان وأعماله. فالشخص الغني الذي ينفق ماله في سبيل الله، ويتجنب الإسراف، ويعتني بالفقراء، ولا يغتر أبدًا، يمكنه أن يكسب رضا الله. وكذلك الشخص الذي يعيش حياة بسيطة وهو قنوع بما لديه، وشاكر، ويستخدم قناعته للتركيز على العبادات وخدمة الخلق، يمكنه أيضًا أن يحقق الرضا الإلهي. النقطة الأهم هي أن الحياة البسيطة توفر بيئة مواتية للنمو الروحي، والابتعاد عن الذنوب المرتبطة بالجشع والطمع، والتركيز على الهدف الأساسي من الخلق. هذه البيئة المواتية تزيد من احتمالية تحقيق رضا الله، لكنها لا تضمن ذلك بشكل قاطع. رضا الله يتحقق من خلال التقوى والأعمال الصالحة والإخلاص في العبودية، وبساطة الحياة يمكن أن تكون إحدى الطرق الفعالة للوصول إلى هذه الفضائل، بشرط أن تكون مصحوبة بنية خالصة وفي سبيل عبادة الله الصحيحة. وبالتالي، فإن الحياة البسيطة لا تعني رضا الله بحد ذاتها، بل يمكن أن تكون وسيلة قوية وفعالة لتحقيقه، بشرط أن تكون هذه البساطة مصحوبة بمبادئ الإيمان والأخلاق الأخرى وأن يكون الهدف النهائي للإنسان رضا الله، وليس مجرد عدم امتلاك المال والثروة. إنها اختيار واعٍ للتحرر من التعلقات الدنيوية والتركيز على ما هو دائم، أي العلاقة بالله تعالى.
يُروى أن كسرى أنوشروان العادل سأل يومًا أحد المقربين منه: "من هو الذي يعيش حياة أهنأ، الملك أم الدرويش؟" فقال الرجل: "الملك يعيش مع الصعوبة والقلق، بينما الدرويش يعيش مع الراحة والقناعة." تأثر الملك وفكر مليًا. بعد فترة، رأى درويشًا يجلس في زاوية بثياب بسيطة ووجه بشوش، لا يشكو من شيء. اقترب أنوشروان وسأله: "ماذا تملك في هذا العالم يجعلك هكذا مرتاحًا وسعيدًا؟" ابتسم الدرويش وقال: "يا أيها الملك، أمتلك ما لا تملكه: قناعة تجعلني مستغنيًا عن كل رغبة، وخفة حمل تحررني من كل هم. أموال الدنيا هي قيود بالنسبة لك، أما بالنسبة لي فهي أجنحة. أنا راضٍ بالقليل من الرزق الحلال، بينما أنت، مع وفرة من المال، لا تزال قلقًا وغير مستقر." استفاد أنوشروان من هذا الكلام وأدرك أن السلام الحقيقي يكمن في بساطة القلب والقناعة، لا في وفرة الذهب والفضة.