القرآن يذم الغضب المدمر وغير المنضبط ويوصي بكظمه. لكن الغضب في سبيل الحق والدفاع عن العدل، إذا اقترن بالحكمة والتحكم، يمكن أن يكون مقبولًا بل وضروريًا.
هل الغضب مذموم دائمًا؟ هذا سؤال يواجهه الكثير منا في حياتنا اليومية. للوهلة الأولى، قد يبدو أن الغضب عاطفة سلبية ومدمرة يجب تجنبها دائمًا. ولكن هل يؤيد القرآن الكريم، كتاب هداية المسلمين، هذا الرأي المطلق؟ بالتأمل في الآيات الإلهية وتعاليم النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ندرك أن الإجابة على هذا السؤال تتطلب فهمًا أعمق وأكثر دقة. الغضب بحد ذاته هو شعور إنساني طبيعي؛ مثل الفرح والحزن والخوف والحب. ما يهم حقًا هو كيفية إدارة هذا الشعور والتعبير عنه. يركز القرآن الكريم في المقام الأول على التحكم في الغضب المدمر وكبحه، وليس على نفيه المطلق. من أبرز الآيات التي تتناول موضوع الغضب هي الآية 134 من سورة آل عمران. في هذه الآية، يصف الله تعالى صفات المتقين والمحسنين، قائلاً: "الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (الذين ينفقون في الرخاء والشدة، والذين يكظمون الغيظ ويعفون عن الناس، والله يحب المحسنين). هنا، ذُكرت عبارة "الكاظمين الغيظ" (الذين يكظمون غضبهم) كإحدى السمات البارزة للمتقين. يشير هذا إلى أن كبح الغضب ومنع ظهوره بطريقة تؤدي إلى الضرر والندم أمر ذو قيمة عالية في نظر الله. توضح هذه الآية بجلاء أن التغلب على الرغبة في الانتقام والتحكم في المشاعر السلبية هو علامة على التقوى والإحسان. هذا النوع من الغضب، هو الغضب الشخصي والعاطفي الذي يمكن أن يدمر العلاقات ويزعج السلام الفردي والمجتمعي. يذكرنا القرآن في هذا السياق بأن القوة الحقيقية تكمن في ضبط النفس، وليس في الاستسلام للمشاعر العابرة. عندما يكظم الإنسان غضبه، فإنه في الواقع يسيطر على نفسه، وهذا التحكم له أجر عظيم عند الله. آية أخرى في سورة الشورى (42:37) تشير إلى صفات المؤمنين الحقيقيين: "وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ" (والذين يتجنبون كبائر الإثم والفواحش، وإذا غضبوا هم يغفرون). تشير هذه الآية إلى أنه حتى لو غضب الفرد، فإن الاستجابة الصحيحة والإسلامية هي المغفرة والتجاوز. هذا لا يعني نفيًا مطلقًا للغضب، بل يؤكد على عدم السماح للغضب بالسيطرة على أفعال الفرد وقراراته. قد ينشأ الغضب، ولكن ما يهم هو كيفية الاستجابة له: بالمغفرة بدلًا من الانتقام، وبالصبر بدلًا من التسرع. تعلمنا هذه الآية أن القدرة على المغفرة حتى في أوج الغضب، هي علامة على النضج الروحي والإيماني. مثل هؤلاء الأفراد لا يتجنبون الكبائر فحسب، بل يحافظون أيضًا على فضيلة العفو عند مواجهة المشاعر الشديدة. من هذه الآيات، يمكن استنتاج أن الغضب المذموم هو الغضب الذي يخرج عن السيطرة، ويؤدي إلى الظلم والجور، أو ينتهك حقوق الآخرين. هذا النوع من الغضب، المتجذر في الكبر أو الأنانية أو الحسد، هو بالتأكيد مذموم في الإسلام، لأنه يؤدي إلى عواقب مدمرة على الفرد (بما في ذلك الأمراض العقلية والجسدية مثل ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب) وعلى المجتمع (مثل الصراع والعنف وقطع العلاقات والعداوات الطويلة الأمد). وقد نصح النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أيضًا بتجنب الغضب غير المبرر وتشجيع الحلم والصبر في أحاديث عديدة. قال: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب." هذا الحديث النبوي يعكس بوضوح أن القوة الحقيقية تكمن في السيطرة على النفس، وليس في القدرة على قهر الآخرين. ومع ذلك، هل الغضب مذموم دائمًا وفي جميع الظروف؟ الإجابة هي لا. في بعض الحالات، لا يكون الغضب مذمومًا فحسب، بل يمكن أن يكون علامة على الغيرة الدينية، وحس العدالة، والدفاع عن الحق. يشار إلى هذا النوع من الغضب غالبًا باسم "الغضب الإلهي" أو "الغضب المقدس". عندما تُنتهك حرمات الله، أو يُظلم مظلوم، أو يُغتصب حق، فإن الشعور بالغضب والاشمئزاز تجاه هذا الفعل طبيعي تمامًا وضروري. وقد غضب النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) نفسه في الحالات التي انتُهكت فيها حدود الله، أو وقع ظلم عظيم. ومع ذلك، لم يخرج هذا الغضب عن السيطرة أبدًا ولم يؤدِ إلى الظلم أو الجور. كان الغرض من هذا الغضب هو الدفاع عن الحقيقة وتصحيح الأمور وإقامة العدل. هذا النوع من الغضب مقدس، ينبع من العقلانية، الإيمان، والمسؤولية الاجتماعية. على سبيل المثال، عندما تكبر فرعون وأفسد في الأرض أمام نبي الله موسى (عليه السلام)، شعر موسى (عليه السلام) بالغضب والاحتجاج، وكان هذا الغضب في سبيل الحق وقد أقره الله تعالى. أو عند مواجهة عبادة الأصنام والشرك، شعر الأنبياء بغضب إلهي. هذا الغضب لم ينبع من الأهواء الشخصية، بل من عمق الإيمان والغيرة على الدين والعدالة. مثل هذا الغضب يكون دافعًا للوقوف ضد الباطل ومكافحة الفساد، ويمكن استخدامه كقوة بناءة نحو الخير والإصلاح. هذا الغضب ليس ضارًا فحسب، بل ضروري في بعض الأحيان لإقامة الحق ومكافحة الباطل، شريطة ألا يتجاوز حدود العدل، وبدلاً من أن يحرق الإنسان من الداخل، يتحول إلى أداة للتغيير الإيجابي. لذلك، من الضروري التمييز بين أنواع الغضب: 1. الغضب الشخصي والنفساني: هذا النوع من الغضب، الذي ينبع غالبًا من الكبرياء أو الغرور أو الأنانية أو الضرر بالمصالح الشخصية، مذموم بشدة في الإسلام، والتحكم فيه من الصفات البارزة للمؤمنين. يؤدي هذا الغضب إلى العدوان وسوء المعاملة والندم، ويمكن أن يعرض صحة الفرد النفسية والجسدية للخطر ويفسد العلاقات الاجتماعية. 2. الغضب الإلهي والعادل: يظهر هذا النوع من الغضب ردًا على الظلم والجور وانتهاك الحقوق الإلهية والإنسانية والفساد. هذا الغضب هو دافع للإصلاح وإقامة الحق، ويجب أن يكون مصحوبًا بالحكمة والتحكم الكامل حتى لا يتحول هو نفسه إلى شكل آخر من أشكال الظلم. هذا الغضب هو جانب من جوانب الغيرة الإلهية التي تحفز الإنسان على عدم السكوت عن المنكر والسعي لإقامة المعروف. في الختام، تستند تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية على مبدأ أن الإنسان يجب أن يكون سيد نفسه، لا عبدًا لمشاعره. الغضب، مثل أي قوة قوية أخرى، يمكن أن يكون مدمرًا إذا ترك دون رادع؛ ولكن إذا تم توجيهه بشكل صحيح ولغرض إلهي نبيل، فيمكن أن يكون أداة لتحقيق العدالة والدفاع عن الحق. المفتاح الأساسي لفهم هذه المسألة هو "إدارة الغضب". كظم الغضب حيث يسبب ضررًا، وإظهاره حيث يفيد الحق والعدالة، مع التحكم الكامل ودون تجاوز الحدود الشرعية والأخلاقية، هو النهج القرآني. المؤمن الحقيقي هو الذي يستطيع أن يمارس العفو والصفح حتى في أوج غضبه، وعلى النقيض، يقف ثابتًا ضد الكفر والظلم، ليس بدافع الحقد أو الهوى الشخصي، بل بدافع الغيرة والعدالة. هذا التعليم يرشدنا إلى تحقيق السلام الداخلي ومجتمع عادل ورحيم، ويعلم الإنسان كيفية استخدام كل عاطفة، حتى المشاعر السلبية الظاهرية، لتحقيق كماله الذاتي وتحسين المجتمع.
في كتاب گلستان لسعدي، يُروى أن ملكًا كان له خادم يحبه كثيرًا. ذات يوم، أسقط الخادم إناءً ثمينًا فكسره. اشتعل الملك غضبًا وعزم على معاقبته. فقال الخادم بذكاء: "يا ملك، اعلم أن الغضب كالنار، أول ما يحرق صاحبه. وإن غضبك هذا يحرقني، فكأنما أشعلت نارًا في حديقتك أنت." لما سمع الملك هذا القول، تأمل لحظة وكظم غضبه. وقال لنفسه: "صدق، الغضب غير المبرر يفسد سلامي أكثر مما يضر الآخر، ويبعدني عن الحكمة." فعفا عن الخادم وتعلم درسًا عظيمًا من هذه التجربة: أن التحكم في الغضب علامة على العظمة والحكمة، وهو كنز يجلب السكينة.