نعم، يشير القرآن الكريم بوضوح إلى العدالة الاقتصادية والتوزيع العادل للثروة من خلال مفاهيم مثل الزكاة، وتحريم الربا، والتشجيع على الإنفاق. ويهدف إلى إقامة مجتمع يُقلَّل فيه الفقر ولا تتراكم الثروة في أيدي قلة.
نعم، لقد تناول القرآن الكريم موضوع العدالة الاقتصادية بشكل شامل وعميق، واعتبرها جزءًا لا يتجزأ من المجتمع الصحي والقائم على الإيمان. فالتعاليم القرآنية لا تقتصر على الجوانب العبادية والأخلاقية الفردية فحسب؛ بل تقدم أطرًا قوية للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، مع تركيز خاص على التوزيع العادل للثروة ومنع تركزها في أيدي قلة. الهدف الأساسي للقرآن من طرح هذه المبادئ هو إقامة مجتمع يتم فيه تقليل الفقر إلى أدنى حد، وتلبية الاحتياجات الأساسية لجميع الأفراد، وتوفير فرص متساوية للنمو والتقدم. من أبرز مبادئ العدالة الاقتصادية في القرآن الكريم مفهوم «العدل» و«القسط». فقد أمر الله في آيات عديدة بإقامة القسط والعدل. يجب أن تسود هذه العدالة ليس فقط في الأحكام والمعاملات، بل في جميع أبعاد الحياة الاقتصادية أيضًا. يعتبر القرآن المال والثروة أمانة إلهية، والإنسان مؤتمن عليها. لذلك، لا ينبغي استخدام الثروة للمتعة الشخصية أو التراكم فحسب، بل يجب أن تُتداول في سبيل الله ولتلبية احتياجات المجتمع. وتوضح الآية السابعة من سورة الحشر هذا الأمر بقولها: "كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ". هذه الآية ترسي مبدأً عامًا لمنع تركز الثروة وتشجيع توزيعها العادل في المجتمع. لتحقيق هذه العدالة الاقتصادية، يقدم القرآن أيضًا آليات عملية ومؤسسية. تُعد «الزكاة» و«الصدقات» من أهم هذه الآليات. فالزكاة ليست مجرد عبادة مالية، بل هي ركيزة أساسية في النظام الاقتصادي الإسلامي لإعادة توزيع الثروة. فبموجبها، يتم دفع جزء من أموال الأغنياء سنويًا للفقراء والمساكين، والمساكين، والغارمين، وابن السبيل، وغيرهم. وهذا يضمن تداول الثروة داخل المجتمع ويقلل من الفوارق الطبقية. يذكر القرآن أهمية الزكاة مرارًا وتكرارًا جنبًا إلى جنب مع الصلاة، مما يدل على مكانتها المحورية في الدين. وفي الآية التاسعة عشرة من سورة الذاريات يقول تعالى: "وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ". تؤكد هذه الآية بوضوح على حق الفقراء والمحتاجين في أموال الأغنياء، وتعتبر هذا الحق واجبًا شرعيًا وأخلاقيًا، وليس مجرد عمل خيري اختياري. إلى جانب الزكاة، يدين القرآن ويحرم «الربا» (الفائدة) بشدة. فحرمة الربا، التي وردت صراحة في آيات مثل الآية 275 من سورة البقرة، هي حجر زاوية آخر للعدالة الاقتصادية في الإسلام. فالربا يؤدي إلى زيادة غير منضبطة في ثروة الأغنياء وزيادة فقر الفقراء، ويعطل التدفق الطبيعي للاقتصاد. يعتبر القرآن الربا حربًا على الله ورسوله، وبدلاً من ذلك، يشجع التجارة الحلال والقرض الحسن (القروض بدون فائدة). يهدف هذا النهج إلى خلق اقتصاد قائم على الشراكة، والمخاطرة الحقيقية، والمساعدة المتبادلة، بدلاً من الاستغلال والجشع فقط. علاوة على ذلك، يؤكد القرآن على أهمية «الإنفاق» (الإنفاق في سبيل الله) وينهى عن «الاحتكار» (تخزين السلع لرفع الأسعار) و«التبذير» (الإسراف). يشمل الإنفاق أي مساعدة مالية طوعية للمحتاجين، ويتم تشجيع الأفراد على التبرع مما رزقهم الله، بغض النظر عن قدرتهم المالية. وعلى النقيض، فإن الاحتكار والإسراف مدينان بشدة لأنهما يؤديان إلى اضطراب الأسواق، وتبديد الموارد، وخلق عدم المساواة. كما أن أحكام الميراث مفصلة بدقة في القرآن لمنع تراكم الثروة في جيل واحد ولتسهيل توزيعها بين الورثة. باختصار، إن رؤية القرآن للعدالة الاقتصادية رؤية شاملة وعملية، تهدف إلى بناء مجتمع متوازن ومستقر ومتماسك. لا تؤكد هذه التعاليم على المسؤوليات الفردية فحسب، بل توفر أيضًا إطارًا للسياسات الاقتصادية التي يمكن أن تؤدي إلى الحد من الفقر، وتوزيع الثروة بشكل أكثر عدلاً، وتوفير فرص متساوية للجميع. تستند هذه العدالة الاقتصادية في القرآن إلى الاعتقاد بأن جميع البشر متساوون أمام الله، وأنه لا ينبغي حرمان أحد من حقوقه الأساسية بسبب وضعه الاقتصادي. ومن ثم، فإن النظام الاقتصادي الإسلامي مبني على التعاون والتضامن والمسؤولية الاجتماعية حتى يتمكن كل فرد من العيش بكرامة والمساهمة في تنمية مجتمعه. هذه المبادئ ليست ذات صلة فقط بزمن نزول القرآن، بل هي موجهة ومنيرة لكل عصر وكل مجتمع، وقادرة على إلهام أنظمة اقتصادية عادلة في العالم المعاصر.
حُكي أن في مدينة ما، كان هناك تاجر يملك ثروة طائلة، ولكنه كان يرفض أن يعطي الفقراء، معتقدًا أن الثروة تُجمع لنفسه فقط. وكان لديه جار، فلاح بسيط يطلب الرزق الحلال، وكلما نال خيرًا، كان يتبرع بجزء منه دون تردد للمحتاجين. ذات يوم، اشتكى التاجر من الفقر وقال: "لقد ضاعت ثروتي وزالت بركتها." فرد الفلاح بابتسامة لطيفة: "يا صديقي، إذا أطلقت الماء في النهر، يذهب إلى كل مكان ويسقي الزرع؛ أما إذا حبسته في خزان، فسوف يتعفن ويفسد. وهكذا هي الثروة؛ عندما تُنفق في سبيل الله وعباده، تتبارك وتنمو، أما إذا حُبست في الصدور، فلا بركة فيها، بل تزول." تعظ التاجر من هذا القول، وبفعله له، وجد اليسر في أموره والسلام في قلبه.