نعم، تحمل الإهانة نوع من الصبر، ويدل على قوة الروح والتوكل على الله، شريطة أن يكون ذلك بحكمة وفي سبيل رضا الله. يهدف هذا الصبر إلى الحفاظ على السلام الداخلي ورفع الدرجات الروحية، لا إلى الاستسلام للظلم.
السؤال المطروح حول ما إذا كان تحمل الإهانة نوعاً من الصبر هو استفسار عميق وعملي يتطلب شرحاً دقيقاً للتعاليم القرآنية والنبوية. وبكل تأكيد، نعم، تحمل الإهانة هو نوع من أنواع الصبر، ولكن ليس كل تحمل. يجب أن يكون هذا التحمل مصحوباً بالبصيرة والحكمة، وأن يقع ضمن إطار المبادئ الإسلامية. الصبر في القرآن الكريم مفهوم واسع ومتعدد الأوجه يشمل الثبات والاستقامة والتحمل وضبط النفس في مواجهة الصعوبات والمصائب والإغراءات، وحتى الإساءات اللفظية والنفسية. يوصي القرآن المؤمنين بالتحلي بالصبر في أشكاله المختلفة: الصبر على طاعة الله (مثل أداء العبادات رغم المشقة)، والصبر عن المعصية (مثل مقاومة الإغراءات)، والصبر على المصائب والابتلاءات (مثل فقدان الأحباء أو الخسائر المالية). يقع تحمل الإهانة بوضوح ضمن الفئة الثالثة، أي الصبر على المصائب والأذى، ويعتبر من أبرز مظاهر "الصبر على المكروهات". أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل المؤمنين يواجهون الإهانة هو الابتلاء الإلهي. يوضح الله في القرآن أن كل إنسان سيتعرض للاختبار والابتلاء ليُقاس مدى إيمانه وصبره وثباته. ويمكن أن تكون الإهانة والأذى اللفظي أحد هذه الاختبارات، التي تهدف إلى تنقية الروح، وتقوية الإيمان، ورفع الدرجات المعنوية. في آيات عديدة من القرآن الكريم، يتم التأكيد على أهمية الصبر في مواجهة المضايقات والسخرية والسباب. وغالباً ما كانت هذه الأذى تأتي من معارضي الدين أو من أناس جاهلين. يأمر الله تعالى في القرآن الكريم النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) والمؤمنين بالتحلي بالصبر في مواجهة مثل هذه التصرفات. على سبيل المثال، في سورة آل عمران، الآية 186، يقول تعالى: "لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ". هذه الآية توضح صراحة أن المؤمنين سيواجهون أذى لفظياً ونفسياً كثيراً ("أذى كثيراً")، والحل القرآني له هو الصبر والتقوى. هذا "الأذى الكثير" يمكن أن يشمل الإهانة والتوبيخ والسخرية والسب، والصبر على ذلك دليل على العزيمة القوية والإرادة. الصبر في مواجهة الإهانة علامة على قوة الروح وسمو الهمة، وليس ضعفاً أو عجزاً أو سلبية. إن الشخص الذي يتعامل مع الإهانة بهدوء ورزانة وعظمة، يظهر في الواقع أن كرامته الذاتية لا تعتمد على آراء الآخرين، بل تستند إلى الإيمان بالله والقيم الإلهية والكرامة الإنسانية الأصيلة. هذا الشخص، من خلال التحكم في غضبه وعدم الرد بالمثل، يتجنب الوقوع في فخ الألاعيب النفسية المهينة للطرف الآخر، ولا يسمح للكلمات المهينة بأن تعكر صفو سلامه الداخلي. هذا النوع من الصبر هو فعل واعٍ ومختار، يهدف إلى الحفاظ على كرامة النفس، والوصول إلى رضا الله، ومنع تصعيد العداوات والشرور. هذا الصبر، بدلاً من رد الفعل العاطفي، يعتمد على التأمل والبصيرة لاختيار أفضل استجابة تحافظ على القيم الأخلاقية والروحية. ويوضح القرآن الكريم، في وصف صفات "عباد الرحمن" (عباد الله الخاصين) في سورة الفرقان، الآية 63: "وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا". هذه الآية تعلمنا كيف نتعامل مع أولئك الذين يتحدثون إلينا بجهل أو بنية الإهانة والإزعاج. الرد بـ "سلام" هنا يعني التمني بالسلامة والانسحاب بكرم وهدوء، وليس بالضرورة الرد بنفس اللغة المهينة وإثارة الأحقاد. هذه الطريقة في التعامل هي قمة الصبر والحكمة والعظمة، حيث يرفع الشخص نفسه فوق الانخراط في جدال لا طائل منه مع الجهال ويتجنب الوقوع في حلقة مفرغة من الإهانة والرد. يجب الانتباه إلى أن الصبر على الإهانة لا يعني الاستسلام للظلم أو قبول الظلم. لا يسمح الإسلام أبداً بالذل أو الاستسلام للظلم. إذا كانت الإهانة تعني انتهاك الحقوق الأساسية للفرد أو المجتمع، وكان هناك سبيل مشروع وقانوني وحكيم لمواجهتها، فإن الإسلام لا يسمح بالصمت والذل، بل يؤكد على الدفاع عن الحق ومواجهة الظلم. الصبر الذي أقره القرآن هو الصبر الذي يهدف إلى الحفاظ على القيم الدينية والإنسانية، وتحقيق الكمال، والارتقاء الروحي. هذا الصبر هو استراتيجية فعالة وذكية لإدارة الأزمات الروحية، والحفاظ على السلام الداخلي في مواجهة الهجمات الخارجية، واختيار أفضل رد فعل لا يؤدي إلى الفساد والخراب. لكن على المستوى الفردي، وفي مواجهة الإساءة اللفظية والشخصية التي يكون هدفها الوحيد تعطيل السلام وإثارة الفرد، فإن التحمل الكريم، والعفو، وعدم الرد بالمثل هو قمة الصبر والحكمة والنضج الفكري والروحي. هذا النوع من الصبر يترافق أيضاً مع العفو والتجاوز، كما يقول الله تعالى في القرآن: "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ" (النور، الآية 22). كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) أمثلة بارزة في الصبر على الإهانة والأذى. فحياتهم مليئة بالمواقف التي تعرضوا فيها للإهانة والسخرية والرفض والسباب، لكنهم ردوا بالصبر والأخلاق الحسنة والدعاء لهداية الجهال وعدم الرد بالمثل. هذا السلوك لم ينتقص من مكانتهم فحسب، بل زاد من عظمتهم وتأثير كلماتهم، وهدى الكثيرين إلى الصراط المستقيم. هذا الاقتداء بالأولياء الإلهيين يظهر كيف يمكن تحويل الإهانة إلى فرصة لإظهار الفضائل الأخلاقية، وكسب القلوب، والتقرب إلى الله. من منظور علم النفس الإسلامي، يؤدي تحمل الإهانة بالصبر إلى تعزيز الثقة بالنفس الحقيقية. فعندما يدرك الفرد أن قيمته وكرامته تحددها الخالق ولا تتأثر بكلمات الآخرين التي لا قيمة لها، فإنه يحقق السلام الداخلي والثقة. وهذا الصبر يتيح أيضاً فرصة للتأمل في نقاط الضعف الداخلية والعمل عليها؛ فربما تحمل الكلمات المهينة، حتى لو كانت بنية سيئة، تذكيراً يمكن أن يساعد في تصحيح الذات. وحتى لو لم يكن كذلك، فإن ممارسة الصبر في مثل هذه المواقف تزيد من القدرة الروحية والنفسية للإنسان، وتهيئه لمواجهة تحديات أكبر، وتعلمه كيفية التحكم في ردود أفعاله. وفي النهاية، وعد الصابرون في القرآن مكفول. يقول الله تعالى: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ" (الزمر، الآية 10). هذا الأجر غير المحسوب لا يشمل الأجر الأخروي فحسب، بل يجلب أيضاً السلام والبركة في الدنيا، حيث يتحرر الفرد، من خلال ضبط النفس والتوكل على الله، من دائرة السلبية والضغينة. ولذلك، فإن تحمل الإهانة بالطريقة القرآنية وبنية التقرب إلى الله ليس مجرد نوع من الصبر، بل هو من أعلى مراتبه، ويتطلب تهذيب النفس، وإيماناً عميقاً، وتوكلاً كاملاً على الله. هذا الصبر يرشد الإنسان نحو كمال الإنسانية ويضعه في زمرة "عباد الرحمن".
يُروى أنه في زمان مضى، كان هناك تاجر ذو سمعة طيبة، يمتلك ثروة وفيرة وخلقاً نبيلاً. لكن كان له جار ضيق الأفق وحسود، يسعى دائماً لإيذائه بكلماته اللاذعة والمهينة. وفي أحد الأيام، جاء هذا الجار إلى السوق، وأمام جمع من الناس، تفوّه بكلمات بذيئة عن التاجر بقصد تحقيره. انتظر الناس أن يغضب التاجر ويرد عليه بغلظة. لكن التاجر، بابتسامة هادئة، خفض رأسه، وعندما انتهى الجار من كلامه، قال: "يا أخي! إذا رأيتني بهذا الشكل، فاعلم أن العيب في بصيرتك أنت، لا في ذاتي. من عرف قدر نفسه لم يخشَ ألسنة الناس، ولم يبالِ بنقصان كماله. لعل الله يهديك لتتطهر من الحسد ويهدأ قلبك." ثم، دون أن ينطق بكلمة أخرى، أدار وجهه وانشغل بعمله. فشعر الجار بالخزي من حلم التاجر وعظمته، وأدرك أن الإهانة لا تصدر عن عظمة القائل، بل عن حقارته، وأن الصبر زينة الرجال العظام.