هل مسامحة الآخرين قيّمة حقًا؟

نعم، المسامحة في القرآن عمل ذو قيمة عميقة يجلب السلام الروحي، ويقوي العلاقات، وهو طريق لنيل المغفرة الإلهية. إنها علامة على القوة وعظمة الروح، وليست ضعفًا.

إجابة القرآن

هل مسامحة الآخرين قيّمة حقًا؟

في تعاليم القرآن الكريم الثمينة، لا تُعد المسامحة والعفو عن الآخرين فضيلة أخلاقية فحسب، بل هي عمل قيم للغاية ذو أبعاد روحية واجتماعية وإلهية واسعة. هذه القيمة عالية لدرجة أن الله تعالى دعا المؤمنين إليها مراراً وتكراراً في كتابه، واعتبر هذه الصفة من صفاته المحبوبة. في الحقيقة، مسامحة الآخرين هي انعكاس لصفة 'الغفار' و 'الرحمن' من صفات الله، الذي هو نفسه غفور رحيم لا متناهي. عندما يختار الإنسان المسامحة، فإنه في الواقع يخطو خطوة نحو محاكاة الأخلاق الإلهية ويقرب نفسه من مصدر الرحمة والعطاء الإلهي. من أبرز الآيات في هذا الصدد هي الآية 22 من سورة النور، التي تقول: «وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». هذه الآية تُظهر بوضوح أن مسامحة الآخرين، خاصة أولئك الذين ربما قصروا في حقنا، هي طريق لنيل المغفرة الإلهية. يطلب منا الله تعالى أنه إذا كنا نُريد منه أن يغفر ذنوبنا، فعلينا أيضاً أن نكون متسامحين تجاه أخطاء الآخرين. هذه معاملة روحية؛ نُسامح لكي نُسامَح. هذه الدورة من المسامحة تجلب الطمأنينة الروحية للفرد وتضع حجر الأساس لمجتمع مبني على الحب والتآزر. العفو والصفح يقللان من الضغائن والأحقاد الداخلية ويُحرران قلب الإنسان من العبء الثقيل للكراهية والانتقام. الاحتفاظ بالضغينة يشبه حمل عبء ثقيل لا يضر الشخص الذي نحمل ضغينة ضده فحسب، بل يبقينا في معاناة وعذاب دائمين. يؤكد القرآن على التخلص من هذه الأعباء النفسية. عندما تسامح شخصاً، فإنك في الواقع تحرر نفسك من سجن المرارة والغضب، وتوفر مساحة للنمو الروحي والسلام الداخلي. هذه الحرية الداخلية لها قيمة لا تقدر بثمن ولا يمكن لأي مكافأة مادية أن تحل محلها. بالإضافة إلى ذلك، أشارت العديد من الآيات إلى أهمية كظم الغيظ والمسامحة. في سورة آل عمران، الآية 134، نقرأ أن المحسنين هم الذين «الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ». هذا يوضح أن المسامحة ليست مجرد عمل أخلاقي، بل هي من السمات البارزة للمحسنين الذين ينالون محبة ورضا الله. من منظور اجتماعي أيضاً، يلعب العفو والمصالحة دوراً حيوياً في تقوية العلاقات الإنسانية. في سورة الشورى، الآية 40، جاء: «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَن عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ». تفتح هذه الآية الباب للعدل والقصاص، ولكنها تشير فوراً إلى القيمة العالية للعفو والإصلاح. اختيار طريق المسامحة والمصالحة لا يساعد فقط في رأب الصدع والخلافات، بل يهيئ الظروف للتعايش السلمي ويعزز أسس المجتمع. هذا العمل علامة على الحكمة والنبل والتبصر الذي يسعى لخلق جو من السلام والمحبة بدلاً من الإصرار على الانتقام وتصعيد العداوات. لذلك، تتجاوز قيمة المسامحة مجرد العمل الخيري. المسامحة استثمار روحي تعود ثماره علينا في الدنيا والآخرة. في الدنيا، تؤدي إلى الطمأنينة الروحية، وعلاقات أفضل، والتحرر من قيود الضغائن؛ وفي الآخرة، ستجلب مكافأة عظيمة من الله. من يسامح، لا يمنح الطرف الآخر فرصة للتعويض وقد يُحوّل قلبه فحسب، بل الأهم من ذلك، يُنقّي قلبه ويقترب من المقام الإلهي. هذا العمل يُظهر قوة النفس والروح السامية، وليس ضعفاً أو جهلاً. في الحقيقة، المسامحة علامة حقيقية على القوة والإيمان، إذ لا يستطيع الفرد القوي والمُتكل على الله إلا أن يتنازل عن حقه ويتخلى عن الانتقام. في الختام، يُعلمنا القرآن أن المسامحة هي طريق نحو الكمال، والنمو الروحي، وتحقيق رضا الرب اللامتناهي.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يُروى في گلستان سعدي أن ملكًا غضب على وزير كان قد انتقده، وأمر بسجنه. كان الوزير في السجن يلجأ إلى الله ليلاً ونهاراً. وبعد مدة، حقد أعداء الملك عليه واستعدوا للتآمر. الملك، الذي كان يعلم بإخلاص وزيره السابق، رقّ قلبه وأمر بإطلاق سراحه. وعندما عاد الوزير، سامحه الملك بل وكافأه، وقال له: «لقد تجاوزت عن خطئك، لأني علمت أن من العفو يأتي السلام والطمأنينة». وعندها فقط، وجد كل من الملك والوزير سلامًا حقيقيًا، فالمسامحة لم تحرر قلب السجين فحسب، بل حررت الملك أيضاً من قيود الحقد والغضب، وفتحت طريقاً لإعادة البناء والاتحاد.

الأسئلة ذات الصلة