حب الذات الصحي، الذي يتضمن رعاية وتزكية النفس في سبيل الله، ليس أنانية. أما إذا تجاوز حده وأدى إلى تجاهل حقوق الآخرين، فإنه يتحول إلى أنانية ضارة مذمومة في الإسلام.
إن فهم مفهوم 'حب الذات' وتمييزه عن 'الأنانية' من منظور القرآن الكريم يتطلب تأملاً عميقاً في التعاليم الأساسية للإسلام. القرآن لا يستخدم بشكل مباشر مصطلحات مثل 'حب الذات' أو 'الأنانية' بمعناها الحديث، ولكنه يقدم مبادئ وأسسًا تفصل بوضوح بين هذين المفهومين. الإجابة على هذا السؤال المحوري تكمن في فهم مبدأ التوازن (الوسطية) ومسؤولية الإنسان تجاه نفسه وتجاه الآخرين، وهما من التعاليم المحورية في القرآن. من ناحية، يولي الإسلام أهمية كبيرة للحفاظ على النفس (الروح والجسد). جسدنا أمانة من الله، والاعتناء به – بما في ذلك التغذية السليمة، والراحة الكافية، والنظافة، وتجنب أي ضرر يهدد الصحة البدنية أو النفسية – ليس مجرد أمر جائز بل يعتبر واجباً. هذا يشكل نوعاً من 'حب الذات' بمعنى الحفاظ على هذه الوديعة الإلهية وصيانتها، حتى يتمكن الفرد من أداء واجباته التعبدية والاجتماعية على أكمل وجه. يحث القرآن الكريم الناس على الاستفادة من نعم الله وألا يحرموا أنفسهم منها بالزهد المفرط أو الحرمان غير المعقول. في الواقع، إن تزكية النفس، التي كانت هدفاً أساسياً لبعث الأنبياء، تتطلب الاهتمام بمختلف أبعاد الوجود البشري ليتمكن الإنسان من الوصول إلى الكمال. تشير الآيتان 9 و 10 من سورة الشمس بوضوح إلى أهمية هذا الأمر: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا"؛ أي: "قد أفلح من طهر نفسه من الأخلاق السيئة، وقد خاب وخسر من أخفاها وقَمَعَها بالمعاصي." هذه الآية تدل على أن السعي لتطهير النفس من الرذائل الأخلاقية وتزيينها بالفضائل ليس عملاً مذموماً، بل هو طريق الفلاح والنجاح. هذا التطهير هو شكل بناء من 'حب الذات' يدفع الفرد نحو الرقي ويعده لأداء دور أفضل في المجتمع وأمام الله. كذلك، إن المحافظة على الكرامة الإنسانية وعزة النفس (وليست الغرور والتكبر) هي أيضاً من تعاليم الإسلام. فقد كرم الله الإنسان وجعله خليفته في الأرض ومنحه كرامة ذاتية؛ لذا، فإن أي شيء يمس هذه الكرامة يعتبر مذموماً. هذا الاحترام للذات يعتبر من مصاديق حب الذات بمعناه الإيجابي. من ناحية أخرى، تعني 'الأنانية' في الإسلام الإفراط في حب الذات وتفضيل المصالح الشخصية على أي مبدأ أخلاقي أو ديني أو اجتماعي. هنا يتضح الفارق بين حب الذات الصحي والأنانية الضارة. تتجذر الأنانية في الغرور والطمع والجشع والكبر، وهي كلها من الرذائل الأخلاقية المذمومة في القرآن. الأنانية تدفع الفرد إلى تجاهل حقوق الآخرين، والظلم والعدوان، والابتعاد عن قيم الإيثار والعطاء. ينتقد القرآن بشدة أولئك الذين يفكرون فقط في مصالحهم ويرفضون مساعدة المحتاجين ومراعاة حقوق المجتمع. في سورة القصص، الآية 77، يعبر الله عن التوازن بجمال: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ"؛ أي: "وابتغ فيما آتاك الله من المال والجاه نعيم الآخرة الأبدي، ولا تنس نصيبك من الدنيا بإعراضك عن الأكل والشرب والتمتع بالطيبات، وأحسن إلى خلق الله كما أحسن الله إليك بنعمه، ولا تسع في الأرض بالفساد إن الله لا يحب المفسدين." تظهر هذه الآية بوضوح أن استخدام النعم لتحقيق السعادة الأخروية والتمتع المشروع بالدنيا، مقترناً بالإحسان إلى الآخرين وتجنب الفساد (الذي تعتبر الأنانية سبباً رئيسياً له)، هو أمر مرغوب عند الله. الأنانية الحقيقية هي عندما يلجأ الإنسان إلى الفساد والظلم لتحقيق رغباته الشخصية، أو يمتنع عن مساعدة الآخرين بسبب الجشع والبخل. على النقيض من الأنانية، تأتي صفة 'الإيثار' التي أثنى عليها القرآن الكريم مراراً وتكراراً. ففي سورة الحشر، الآية 9، يقول الله تعالى: "وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"؛ أي: "والذين سكنوا المدينة، وآمنوا بالله ورسوله من قبل أن يهاجر إليهم المهاجرون، يحبون المهاجرين، ولا يجدون في أنفسهم حسداً مما أعطاهم الله من فضله، ويقدمونهم على أنفسهم في العطاء، وإن كانوا في حاجة وفقر، ومن يقه الله شح نفسه، فأولئك هم الفائزون." هذه الآية تمجد قمة التضحية ونكران الذات، وتعتبر بخل النفس (شح النفس) الذي يتجذر في الأنانية، سبباً للضلال. في هذه الآية، يتم ذكر 'شح النفس' كعقبة كبيرة في طريق الفلاح. شح النفس هو حالة لا يبخل فيها الإنسان بالمال فحسب، بل يكون قاسياً في كل جانب آخر، بما في ذلك التضحية والعفو، ويقدم مصالحه على كل شيء. هذا هو ما نسميه اليوم 'الأنانية المفرطة'، وهو مذموم بشدة من وجهة نظر القرآن. لذلك، إذا كان حب الذات يعني رعاية الصحة البدنية والنفسية، وتزكية النفس، واكتساب المعرفة والفضائل الأخلاقية، والحفاظ على الكرامة الإنسانية في راستای بندگی خداوند باشد، فإنه ليس أنانية على الإطلاق، بل هو ضرورة للنمو والازدهار. أما إذا أدى حب الذات إلى الإفراط، وعنى تفضيل المصالح الشخصية على العدل، وحقوق الآخرين، والقيم الإلهية، فإنه يتحول إلى أنانية ضارة، وهو ما يذمه القرآن. يدعونا الإسلام إلى التوازن والاعتدال؛ ألا نحب أنفسنا لدرجة أن نغفل عن الآخرين وندوس حقوقهم، ولا نتجاهل أنفسنا لدرجة أن نفقد القدرة على خدمة أنفسنا والمجتمع. الهدف النهائي هو تحقيق 'النفس المطمئنة' التي تعتني بنفسها وتعمل الخير للآخرين في توازن كامل، وتسعى لرضا الله تعالى.
يُروى أنه في الأزمنة الغابرة، كان هناك تاجر ثري يمتلك ثروة لا تُعد ولا تحصى، ولكن قلبه كان منغلقاً كصندوق أمواله، ولم يذق طعم العطاء. كلما جمع أكثر، زاد جشعه، ووجد متعة الحياة في التكديس لا في المشاركة. ذات يوم، التقى بحكيم وتفاخر بثرواته. ابتسم الحكيم وقال: "يا صاحبي، ماء النهر يجري ويمنح الحياة، أما الماء الراكد في البركة فيفسد. الثروة كذلك؛ إذا كانت متداولة جلبت البركة، وإلا أصبحت مجرد عبء على قلب صاحبها." اندهش التاجر من كلام الحكيم وأخذ يفكر. تابع الحكيم: "حب الذات الحقيقي هو أن تربي نفسك حتى تصبح مرآة للخير، لا سجناً للبخل. من يفكر في نفسه فقط ويمتنع عن الإحسان، فإنه في الحقيقة يظلم نفسه ويفرغ قلبه من النور." أخذ التاجر هذه الكلمات بقلبه وبدأ شيئاً فشيئاً في العطاء. لم يمض وقت طويل حتى وجد أن السلام والسعادة التي حصل عليها من العطاء كانت أعظم من أي ثروة. فهم أن حب الذات الحقيقي يكمن في حب الآخرين والعطاء، وإلا فإن التراكم بلا هدف لا يجلب سوى الثقل والقلق.