يمكن أن يكون الصمت أمام الباطل علامة خوف أو حكمة، حسب النية والظروف. يؤكد القرآن على مواجهة الباطل بحكمة، لكن الصمت الناتج عن الخوف مذموم.
في تعاليم القرآن الكريم الغنية والعميقة، لا يُعد الصمت أمام الباطل قضية بسيطة أو أحادية الجانب، بل يحمل طبقات متعددة من المعاني التي يمكن تفسيرها بشكل مختلف اعتمادًا على النية والظروف والنتائج المحتملة. يوجهنا القرآن ليس فقط حول كيفية تعامل الأفراد مع الباطل، بل يتناول الأبعاد الاجتماعية والأخلاقية أيضًا. لفهم هذه المسألة، يجب أن نأخذ في الاعتبار المبادئ القرآنية الأساسية مثل 'الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر'، و'الحكمة' (البصيرة والفطنة في الفعل)، و'الشجاعة'، و'الصبر'. من ناحية، يدعو القرآن المؤمنين للوقوف بحزم ضد الظلم والباطل، وينهى عن الصمت الناجم عن الخوف أو اللامبالاة. يتجلى هذا المبدأ الأساسي في العديد من الآيات. على سبيل المثال، في سورة آل عمران (الآية 104)، يقول الله تعالى: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون). تؤكد هذه الآية بوضوح على المسؤولية الجماعية للمسلمين تجاه إصلاح المجتمع ولا تعتبر الصمت المطلق واللامبالاة طريقًا إلى الفلاح. في سورة النساء (الآية 135)، يتم التأكيد على ضرورة القيام بالقسط والشهادة لله، حتى لو كان ذلك ضد أنفسنا أو والدينا وأقربائنا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ». تشير هذه الآيات إلى أن المؤمن الحقيقي هو من يتحلى بالشجاعة في مواجهة الباطل ويدافع عن الحق، بدلاً من اختيار الصمت خوفًا أو لمصالح دنيوية. الصمت الذي ينبع من الخوف يمكن أن يؤدي إلى انتشار الباطل وإضعاف الحق في المجتمع. في بعض الحالات، يمكن تفسير الصمت أمام الباطل على أنه موافقة ضمنية أو حتى تعاون معه، وهو ما يذم بشدة في القرآن. هذا النوع من الصمت يدل على ضعف الإيمان، وقلة الغيرة الدينية، وتفضيل المصالح الشخصية على القيم الإلهية. ولكن من ناحية أخرى، يولي القرآن الكريم أهمية كبيرة 'للحكمة' و'البصيرة' في الأفعال والأقوال. يمكن أن يكون الصمت في ظروف معينة علامة على الفطنة والتدبير، وليس الخوف. في سورة النحل (الآية 125)، يقول الله تعالى: «ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن). توضح هذه الآية أن طريقة الدعوة إلى الحق ومواجهة الباطل يجب أن تكون حكيمة. في بعض الأحيان، قد لا يكون الكلام أو الفعل ضد الباطل فعالًا فحسب، بل قد يؤدي إلى ضرر أكبر وفتنة أوسع. في مثل هذه الحالات، يمكن أن يكون الصمت المؤقت، أو التخطيط لفرصة أفضل، أو اختيار مقاربة غير مباشرة لمواجهة الباطل، علامة على العقلانية والحكمة. على سبيل المثال، في الفترة المكية، على الرغم من الظلم والاضطهاد من قبل المشركين، اتخذ النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) استراتيجية الصبر والمقاومة التي لم تؤد إلى حرب وسفك دماء عشوائي، بل عززت تدريجياً أسس الإسلام. هذا الصمت أو التأخير في المواجهة المباشرة لم يكن بسبب الخوف، بل نابعًا من بصيرة وتخطيط إلهي. علاوة على ذلك، قد لا يمتلك الفرد القدرة على مواجهة الباطل مباشرة، أو قد يؤدي كلامه بدلاً من إصلاح الوضع إلى زيادة الفتنة والانقسام. في هذه الحالة، يكون الصمت والامتناع عن تأجيج الخلافات غير المجدية علامة على العقلانية والحرص على الحفاظ على وحدة المجتمع وسلامه، وليس خوفًا. حتى في مثل هذه الظروف، يظل واجب المؤمن أن يعارض هذا الباطل في قلبه على الأقل وينتظر الفرصة المناسبة لتغييره. يختلف هذا النوع من الصمت اختلافًا جوهريًا عن الصمت الناجم عن اللامبالاة أو الخوف. في الختام، يعتمد الحكم على ما إذا كان الصمت أمام الباطل علامة خوف أم حكمة تمامًا على نية الفرد، والظروف الزمانية والمكانية، والنتائج المحتملة. إذا كان الصمت بسبب الخوف من فقدان المصالح الشخصية أو الخوف من قوة الباطل، فهو بالتأكيد مذموم وعلامة على ضعف الإيمان. أما إذا كان الصمت نابعًا من التدبر، والتخطيط الاستراتيجي، وتجنب الفتنة الأكبر، أو انتظار اللحظة الأكثر ملاءمة، فيمكن أن يكون علامة على الحكمة، والشجاعة الحقيقية، وعمق البصيرة. يعلمنا القرآن أنه يجب علينا دائمًا أن نسلك طريق الحق بشجاعة، ولكن هذه الشجاعة يجب أن تكون مصحوبة بالفطنة والحكمة وبعد النظر لتحقيق أقصى تأثير إيجابي وأقل ضرر. وبالتالي، فإن الإجابة على هذا السؤال ليست 'أو' بل 'و' معقدة، تشمل كلا الاحتمالين، ويقع تمييزها على بصيرة الشخص وإيمانه.
يُروى أن حاكماً كان جالساً في مجلسه مع علمائه وحاشيته، وحينئذ نطق أحد الحاضرين بكلمة باطلة وظالمة. ظل الجميع صامتين، ولم يجرؤ أحد على الرد. لكن حكيماً عليماً كان يجلس في زاوية، ابتسم والتزم الصمت. همس أحد الحاشية إليه قائلاً: «يا حكيم، أنت صاحب البلاغة، فلماذا بقيت صامتاً أمام هذا الباطل؟ هل تخشى غضب الحاكم؟» فأجاب الحكيم بهدوء: «الشجاعة ليست في الصراخ وحده. أحياناً، تكون الشجاعة في كف لسانك عن قول يخرج في وقت غير مناسب ولا يزيد إلا في تأجيج نار الفتنة. علمت أن كلامي في تلك اللحظة لن يزيد إلا في الغضب والحقد، وأن رائحة الفتنة ستنبعث منه. الحكمة كانت في الصمت حتى تحين اللحظة المناسبة، ليُظهر طريق الحق بتدبر ودون ضرر أكبر.» عندما سمع الحاكم هذا القول، زاد من تكريم الحكيم وقال: «إن هذا الرجل شجاع في ساحة القتال وحكيم في ميدان العقل.»