يرفض القرآن الكريم الصمت أمام الظلم، ويدعو المؤمنين إلى الثبات على طريق العدل و«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». هذه مسؤولية جماعية لمكافحة الظلم، حتى مع المخاطر، إلا إذا كان الصمت تكتيكًا لعمل أكثر فعالية في المستقبل.
في تعاليم القرآن الكريم الغنية والشاملة، لا يُعتبر الصمت أمام الظلم والقمع عملاً صحيحًا أو مرغوبًا فيه على الإطلاق، بل هو مدان بشدة ويُعد انتهاكًا لواحدة من أهم الواجبات الإيمانية والأخلاقية للمسلمين، وهي «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». يدعو القرآن الكريم بصيغة واضحة وحاسمة المؤمنين إلى الوقوف ضد الظلم والدفاع عن الحق والعدالة. هذا المبدأ ليس مجرد توصية أخلاقية، بل هو واجب اجتماعي يقوم عليه صحة واستقرار المجتمع. يؤكد القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا على أهمية إقامة العدل والقسط في الأرض. ففي آيات متعددة، يصف الله تعالى نفسه بـ«العدل» و«القسط»، ويطلب من عباده أن يكونوا قائمين بالقسط، حتى لو كان هذا الوقوف ضد أنفسهم أو والديهم أو أقاربهم. هذا التأكيد غير المسبوق يظهر أن العدالة هي القيمة الأكثر مركزية في المنظومة الفكرية للإسلام. فالصمت أمام الظلم يعني غض الطرف عن هذه القيمة الأساسية وترك الساحة للظالمين، مما سيؤدي إلى عواقب مدمرة وواسعة النطاق. عندما يحدث الظلم، فإن الصمت في الواقع هو نوع من الرضا الضمني أو على الأقل عدم المعارضة، مما يمنح الظالم جرأة وفرصة أكبر لمواصلة أفعاله. وهذا هو ما ينهى عنه القرآن. مفهوم «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، الذي ورد ذكره في آيات متعددة من القرآن، هو أحد الأركان الأساسية للحياة الاجتماعية والدينية للمجتمع الإسلامي. هذا المبدأ يعني التشجيع على الأعمال الصالحة والمنع من الأعمال السيئة والظلم. تقع هذه المسؤولية على عاتق الأفراد وعلى عاتق المجتمع والحكومة على حد سواء. ففي سورة آل عمران، الآية 104، يقول الله تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»؛ أي «ولْتَكُنْ منكم جماعةٌ يدعون إلى فعل الخيرات، ويأمرون بالمعروف وهو ما عُرِف حُسْنه شرعًا وعقلاً، وينهون عن المنكر وهو ما عُرِف قبحه شرعًا وعقلاً، وأولئك هم الفائزون برضا الله وثوابه.» هذه الآية توضح بجلاء أن وجود مجموعة نشطة لمواجهة الانحرافات والظلم في المجتمع ضروري، وأن الفلاح مرتبط بهذا العمل. وهذا الفلاح يكون للفرد الذي يؤدي واجبه وللمجتمع الذي ينجو من الفساد. وفي سورة النساء، الآية 135، يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا ۚ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا»؛ أي «يا أيها الذين آمنوا، كونوا قائمين بالعدل، مؤدين للشهادة ابتغاء وجه الله، ولو كانت شهادتكم على أنفسكم بالحق، أو على أبويكم وأقاربكم؛ فإن يكن المشهود عليه غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما، لأنه سبحانه مالك أمرهما، فلا تتبعوا أهواءكم لتميلوا عن الحق والعدل، وإن تحرفوا الشهادة أو تمتنعوا عن أدائها، فإن الله تعالى كان بما تعملون خبيرًا، فلا يخفى عليه شيء من أعمالكم.» هذه الآية توجيه فريد لإرساء العدل ولا تستثني أحدًا، حتى لو تعارض الأمر مع المصالح الشخصية أو القرابة. والصمت أمام الظلم يقع في النقطة المقابلة لهذا الأمر القرآني تمامًا. كما يصور القرآن العواقب الوخيمة للصمت أمام الظلم. إن قصص الأمم السابقة التي هلكت بسبب الظلم والفساد وعدم رد الفعل المناسب تجاهه، هي دروس وعبر للبشرية. هذه القصص تدل على أن الظلم لا يضر المظلوم فحسب، بل يضرب بنية المجتمع أيضًا، وإذا لم يُواجَه، فإنه يمكن أن يؤدي إلى تدمير حضارة بأكملها. الصمت، مع مرور الوقت، يؤدي إلى ترسيخ الظلم، وهذا يؤدي إلى انتشار الفساد والانحلال في المجتمع، وتلاشي القدرة على مواجهته. وفي مثل هذه الظروف، يتجه المجتمع نحو الانهيار والهلاك، كما نرى في قصص قوم لوط أو عاد وثمود، كيف أن اللامبالاة وعدم الاعتراض على المنكرات والظلم، جلبت عليهم العذاب الإلهي. ولكن الإسلام يعلم المؤمنين أن يستخدموا الحكمة والبصيرة في مواجهة الظلم. هذا لا يعني أن أي نوع من الصمت محرم، بل الصمت بدافع الخوف أو اللامبالاة أو المصالح الخاطئة هو المذموم. أما إذا كان الصمت نتيجة لتدبير وتخطيط لمواجهة أكثر فعالية في المستقبل، أو في ظروف لا يؤدي فيها الكلام إلا إلى هلاك الفرد بلا فائدة وزيادة الظلم، عندئذ قد يتغير شكل الاحتجاج ويصبح اعتراضًا قلبيًا أو تخطيطًا سريًا. ومع ذلك، يظل المبدأ الأساسي هو أن الظلم لا ينبغي أن يُترك، ويجب مواجهته بكل طريقة ممكنة. فالإسلام لا يرضى أبدًا بالاستسلام أو الرضا بالظلم، وهذا فرق جوهري عن المذاهب الأخرى التي قد تعطي الأولوية للمصلحة الشخصية أو الحفاظ على الحياة بأي ثمن. في الإسلام، حفظ كرامة الإنسان وإقامة العدل من الأولويات العليا. باختصار، يرفض القرآن الكريم صراحة الصمت أمام الظلم ويدعو المؤمنين إلى الثبات على طريق العدالة ومحاربة الظلم. هذه المسؤولية شاملة وتتطلب الشجاعة والمعرفة والحكمة لكي يتمكن المجتمع من الخروج من براثن الظلم والفساد والتحرك نحو السعادة والفلاح. الهدف النهائي هو إقامة مجتمع عادل، تُحفظ فيه حقوق جميع الأفراد وتُحترم كرامتهم الإنسانية. الصمت أمام الظلم لا يضر المظلوم فحسب، بل يمنح الظالم جرأة أكبر لمواصلة أفعاله، وفي النهاية يضر المجتمع نفسه ويدفعه نحو الهلاك. لذلك، يجب على المسلمين، استلهامًا من التعاليم القرآنية، أن يكونوا دائمًا صوت الحق والعدل، وألا يخضعوا أبدًا للظلم أو يلتزموا الصمت، إلا إذا كان هذا الصمت إستراتيجية لعمل أكبر وأكثر فعالية يؤدي في النهاية إلى إزالة الظلم. هذه المسؤولية هي فردية وجماعية على عاتق كل فرد في المجتمع الإسلامي.
يُروى أنه في الأزمنة الغابرة، كان هناك ملك وله وزير ظالم. كان هذا الوزير يضطهد الناس، ولم يكن لأحد القدرة على النطق بكلمة، خوفًا من غضب الوزير وعقاب الملك. ذات يوم، درويش زاهد وكبير السن، وقد ضاق صدره بظلم الوزير، لم يستطع أن يبقى صامتًا. قال في نفسه: «الصمت أمام الظلم، هو ظلم آخر». فتوكل على الله وذهب إلى بلاط الملك. وعندما وصل إلى حضرة الملك، وباحترام شديد، روى قصة: «أيها الملك العادل، لقد سمعت أن أسدًا قويًا، كان لديه ذات يوم شبل ضعيف. وكانت ضبع ماكرة تأكل قطعة من جسد الشبل كل يوم، والأسد، أملًا في ألا تهجم الضبع بالكامل على الشبل فتقتله، كان يبقى صامتًا. ولكن الضبع كل يوم ازدادت جرأة حتى ابتلعت الشبل بالكامل أمام عيني الأسد، ولم يجنِ الأسد سوى الحسرة والندم.» الملك، الذي كان رجلاً ذكيًا، فهم على الفور قصد الدرويش. فقد رأى فساد الوزير في صمته، ولكنه ظن أن في ذلك مصلحة أو خاف من الفوضى، فلم ينبس ببنت شفة. لكن كلام الدرويش، كالسيف الحاد، أزال الغشاوة عن عينيه. فأمر الملك على الفور بعزل الوزير الظالم ومعاقبته على أفعاله. ففرح الناس وعلموا أن صوتًا واحدًا صادقًا، حتى من درويش بسيط، يمكنه أن يقلب ظلمًا طال أمده ويعيد العدالة. هذه الحكاية تعلمنا أن الصمت أمام الظلم، لا يزيد الظالم إلا جرأة، ويبعد العدل عن المجتمع، وأحيانًا، كلمة حق واحدة تنجي العالم من الظلمات.