تحدد قيمة الإنسان الحقيقية في القرآن بالتقوى، الإيمان والعمل الصالح، العلم النافع، والأخلاق الحميدة، لا بالمعايير المادية. إن أكرم الناس عند الله أتقاهم.
في تعاليم القرآن الكريم السامية، لا تُحدّد القيمة الحقيقية للإنسان بناءً على معايير دنيوية سطحية وعابرة كالثروة أو المكانة الاجتماعية أو العرق أو الجمال أو القوة الجسدية. بل تستمد جذورها العميقة من أبعاد روحه وأخلاقه ووجوده. فالقرآن، بمنظوره الشامل والجامع، يقدّم معايير لتقييم الإنسان ثابتة وصالحة على الدوام، تتجاوز الزمان والمكان. هذا المنظور الإلهي يعتبر الإنسان كائناً نبيلاً وهادفاً، يمتلك القدرة على بلوغ أقصى درجات الكمال والقرب الإلهي، شريطة أن يسلك الطريق الصحيح ويعمل وفقاً للتعاليم الوحيانية. المفهوم المحوري الذي يطرحه القرآن لتحديد قيمة الإنسان هو "التقوى". فقد ورد صراحة في الآية 13 من سورة الحجرات: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاکُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ". هذه الآية توضح بجلاء أن المعيار الوحيد للتفوق والكرامة للإنسان عند الله هو مدى تقواه. التقوى ليست مجرد أداء للفرائض الدينية؛ بل هي حالة داخلية من اليقظة والوعي الدائم بحضور الله، تدفع الإنسان إلى التحلي بالصلاح في جميع جوانب حياته – في قوله وعمله ونيته – والابتعاد عما نهى الله عنه، والالتزام بما أمر به. فالشخص التقي يسير دائماً في سبيل رضا الله، يلتزم بالعدل، يتجنب الظلم، ويتحلى بالصدق والأمانة في كل أموره. هذه الصفة تميزه عن سائر البشر وتمنحه قيمة أسمى، بغض النظر عن أي انتماءات مادية أو مظاهر خارجية. إنها الأساس الذي تُبنى عليه جميع الفضائل الأخرى، وتعزز التواضع والرحمة والشعور العميق بالمسؤولية تجاه النفس والآخرين والبيئة. بالإضافة إلى التقوى، يُعد "الإيمان الصادق" و"العمل الصالح" من الأركان الأساسية لتقييم الإنسان في القرآن. وقد ذُكر هذان المفهومان معاً في العديد من آيات القرآن، مما يدل على الرابط الوثيق بين الاعتقاد القلبي والفعل. الإيمان ليس مجرد تصديق عقلي، بل هو قوة تحرك القلب والجوارح، وتدفع الإنسان إلى فعل الخير. وتشمل "الأعمال الصالحة" كل عمل خير يُؤدى بإخلاص وبنية خالصة لوجه الله تعالى، بدءاً من العبادات الفردية كالصلاة والصيام، وصولاً إلى خدمة الخلق، مساعدة المحتاجين، إقامة العدل، قول الصدق، رعاية حقوق الآخرين، وحتى الحفاظ على البيئة. ويؤكد القرآن أن المؤمنين الصالحين لا يجدون السكينة والسعادة في الدنيا فحسب، بل ينتظرهم جزاء عظيم وأبدي في الآخرة. ففي سورة العصر (103: 1-3) نقرأ: "وَالْعَصْرِ ٭ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِی خُسْرٍ ٭ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ". هذه السورة القصيرة والعميقة توضح بجلاء أن السبيل الوحيد للنجاة من الخسارة وبلوغ القيمة الحقيقية هو الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. "العلم والمعرفة" أيضاً من العوامل المحددة لقيمة الإنسان في نظر القرآن. فالقرآن يدعو الإنسان إلى التفكر والتعقل واكتساب المعرفة، ويثني على العلماء. ففي سورة المجادلة، الآية 11، يقول الله تعالى: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ". هذه الآية تبين أن العلم، لا سيما العلم الذي يؤدي إلى معرفة الله وقوانينه ويُستخدم لخدمة البشرية، يرفع من قدر الإنسان. فالمعرفة المقترنة بالتقوى والعمل الصالح تمنح الإنسان بصيرة وحكمة، وتساعده في مسيرة الهداية والكمال. فقيمة الإنسان تكمن في استخدامه لقوته العقلية والفكرية وسعيه لفهم حقائق الوجود وتسخيرها لما فيه خير وصلاح. علاوة على ذلك، تُعد "هدفية الإنسان ومسؤوليته" بعداً آخر من أبعاد قيمته. فالقرآن يوضح أن الإنسان لم يُخلق عبثاً، وقد حُدد له هدف سامٍ: عبادة الله والخلافة الإلهية في الأرض. ففي سورة الذاريات، الآية 56، نقرأ: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِیَعْبُدُونِ". هذه العبادة لا تعني مجرد أداء المناسك، بل تعني العيش وفقاً لإرادة الله وتوجيه جميع الأنشطة نحو رضاه. فالإنسان، بصفته "خليفة الله" أو خليفته على الأرض، مسؤول عن إعمارها وحمايتها، وإقامة العدل والقسط، وهداية الآخرين نحو الخير. ويرتبط مدى نجاح الإنسان في أداء هذه المسؤوليات ارتباطاً مباشراً بقيمته عند الله. وأخيراً، تُعتبر "الأخلاق الفاضلة" و"الفضائل الأخلاقية"، مثل الصبر والشكر والتواضع والعفو والعدل والصدق والأمانة والرحمة، كلها معايير مهمة لقيمة الإنسان في القرآن. وقد ذكر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أن هدف بعثته كان إتمام مكارم الأخلاق. فالإنسان الذي يتعامل مع الآخرين بأخلاق حسنة هو مثال لكمال الإنسانية، وهذا بحد ذاته يزيد من قيمته. في الختام، يمكن القول إن القيمة الحقيقية للإنسان في القرآن الكريم تكمن في جودة علاقته بالله ومدى تجسيد الصفات الإلهية في ذاته، ومرتبطة بالإيمان والعمل الصالح، والتقوى، والعلم النافع، والأخلاق الحسنة. هذه هي الصفات التي تمنح الإنسان الأصالة والاستمرارية، وتهديه نحو الكمال والسعادة الأبدية، متجاوزة أي إنجازات دنيوية عابرة.
يروى في گلستان سعدي أن ملكًا عادلاً سأل وزيره ذات ليلة: "كم قيمتك؟" فاستغرب الوزير وقال: "مولاي، أي سؤال هذا؟" فقال الملك: "قيمة كل إنسان بقدر ما يفنى فيه." ظل الوزير حائراً. فأكمل الملك: "من تعلق قلبه بالدنيا وسعى وراء المال والمكانة، أصبحت قيمته بمقدار تلك الأشياء الزهيدة. أما من تعلق قلبه بالحق وسعى في طريق الخير والإحسان، أصبحت قيمته لا تقدر بثمن ولا حدود لها. فقمتك الحقيقية ليست في ثيابك الفاخرة ولا في منصبك الوزاري، بل في تقواك وخدمتك للناس." تعلّم الوزير درساً عظيماً من كلام الملك، وأدرك أن كرامة الإنسان الحقيقية تكمن في جوهره الداخلي، لا في المظاهر الزائلة.