القرآن يعتبر سوء الظن إثمًا ويؤكد على تجنبه في كل السياقات، بما في ذلك العالم الافتراضي. وهذا يشمل ضرورة التثبت من الأخبار وتجنب التجسس والغيبة.
القرآن الكريم، كلام الله الخالد، يوضح المبادئ الأساسية للأخلاق والسلوك البشري في جميع العصور والظروف. على الرغم من أن مفهوم «العالم الافتراضي» أو «الفضاء الرقمي» لم يكن موجودًا وقت نزول القرآن، إلا أن تعاليمه شاملة وعالمية لدرجة أنها توفر إرشادات واضحة لكيفية التعامل مع هذه البيئة الحديثة. فيما يتعلق بـ «سوء الظن» في العالم الافتراضي، يتناول القرآن هذه القضية بشكل صريح وحاسم، مستنكرًا إياها من خلال مبادئ تنطبق بلا شك على تفاعلاتنا عبر الإنترنت. الآية المحورية والأساسية في هذا النقاش هي الآية 12 من سورة الحجرات، والتي يقول فيها الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا کَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُکُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُکُمْ أَن يَأْکُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَکَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ» (يا أيها الذين آمنوا، اجتنبوا كثيراً من الظن، إن بعض الظن إثم. ولا تجسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضاً. أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه؟ واتقوا الله، إن الله تواب رحيم). هذه الآية الكريمة تشكل العمود الفقري لنظرة القرآن إلى سوء الظن. فعبارة «اجْتَنِبُوا کَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ» تشير إلى أنه لا ينبغي فقط تجنب الظن السيئ، بل يجب الابتعاد عن «الكثير من الظن»، لأن «إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ» (إن بعض الظن إثم). هذا التحذير القرآني يتجاوز مجرد توصية أخلاقية بسيطة؛ بل يضع الظن السيئ في مرتبة الإثم، وهو إثم يمكن أن تكون له عواقب دنيوية وأخروية وخيمة. هذا المبدأ ينطبق بشكل عميق وأساسي في العالم الافتراضي. ففي هذا الفضاء، وبسبب غياب التواصل وجهاً لوجه، ومحدودية فهم النبرة والنوايا، ووفرة المعلومات الناقصة أو المضللة، فإن البيئة مهيأة جداً لتكوين سوء الظن. فقد تؤدي رسالة قصيرة، أو صورة غامضة، أو حتى تحديث حالة (ستاتوس) إلى استنتاجات خاطئة وشكوك لا أساس لها. القياس الصادم: «أَيُحِبُّ أَحَدُکُمْ أَن يَأْکُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَکَرِهْتُمُوهُ؟» يشبه الغيبة بأكل لحم الأخ الميت بشكل حيوي ومروع. سوء الظن غالباً ما يكون مقدمة للغيبة والتجسس. عندما نكون لدينا سوء ظن تجاه شخص ما، فإننا نميل إلى التجسس عليه وجمع المعلومات (حتى لو كانت غير صحيحة) لتأكيد افتراضاتنا، ثم ننشرها في محافل مختلفة. تحدث هذه العملية في العالم الافتراضي بسرعة ونطاق غير مسبوقين. يمكن أن تصل شائعة أو افتراء ناتج عن سوء الظن إلى الآلاف في دقائق، مما يدمر سمعة شخص قد يكون بريئًا تمامًا. إعادة التغريد، والمشاركة، والإعجاب بالمحتوى الذي يتضمن سوء الظن أو معلومات كاذبة هو مظهر واضح لنشر الإثم والتحريض عليه. علاوة على ذلك، تؤكد الآية 6 من سورة الحجرات على أهمية «التبين» و «التثبت» (التحقيق والتأكد): «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» (يا أيها الذين آمنوا، إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين). تشير هذه الآية مباشرة إلى مسؤوليتنا تجاه المعلومات التي نتلقاها. في العالم الافتراضي، حيث تنتشر الأخبار والمعلومات - سواء كانت صحيحة أو خاطئة - بسرعة لا تصدق، فإن العمل بهذه الآية أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى. غالباً ما يكون سوء الظن متجذرًا في تلقي معلومات ناقصة أو غير موثوقة. وبدون تحقيق وتثبت، ينمو سوء الظن بسرعة ويمكن أن يؤدي إلى أحكام متسرعة، ووصم، وحتى نبذ اجتماعي لشخص أو مجموعة. هذه الأحكام المتسرعة في الفضاء الافتراضي لا يمكن أن تضر الفرد فحسب، بل على نطاق أوسع، تؤدي إلى الانقسام وانعدام الثقة داخل المجتمع الافتراضي، ثم في المجتمع الحقيقي. من خلال نهيه عن سوء الظن وأمره بالتحقيق، يسعى القرآن في الأساس إلى بناء مجتمع قائم على الثقة والاحترام والعدالة. ففي العالم الافتراضي، حيث العديد من التفاعلات غير مباشرة وبدون حضور مادي، فإن افتراض البراءة والنوايا الحسنة للآخرين يحظى بأهمية خاصة. سوء الظن يبني جدران عدم الثقة بين الأفراد ويدمر التواصل البناء. وهذا يتعارض مع توصيات القرآن المستمرة بالسلام والصداقة والتعاطف. إن أصول سوء الظن في العالم الافتراضي متعددة: عدم الكشف عن الهويات، إمكانية انتحال الشخصية، انتشار الأخبار الكاذبة (Fake News)، المحتوى التحريضي، وغياب الفلاتر الأخلاقية في إنتاج المحتوى ونشره. تخلق هذه العوامل أرضًا خصبة للاتهامات التي لا أساس لها وسوء الفهم. فعالم الإنترنت، على الرغم من ترابطه، غالباً ما يفتقر إلى دقة التواصل وجهاً لوجه، مما يسهل نشوء وتفاقم التفسيرات الخاطئة. إن عواقب سوء الظن في العالم الافتراضي وخيمة، وتؤثر على الأفراد والمجتمع بأسره. على المستوى الفردي، يمكن أن تؤدي إلى التوتر، والقلق، والارتياب، والاكتئاب، وفقدان السلام الداخلي. فالذي يحمل سوء الظن يعاني داخليًا أيضاً. وعلى المستوى الاجتماعي، يقوض سوء الظن الثقة الاجتماعية، وينشر الشائعات، ويدمر سمعة الأفراد، ويشجع على تشكيل جماعات متشككة ومدمرة، ويعزز خطاب الكراهية (Hate Speech)، وينتهك خصوصية الأفراد، ويخلق بيئة سامة تثبط الأفراد عن المشاركة الصحية والبناءة في الفضاء الافتراضي. ومن الناحية الدينية والأخلاقية، فإنه ينطوي على ارتكاب الذنوب، والابتعاد عن القيم القرآنية، وعرقلة النمو الروحي، ويجعل الفرد غير مستحق للرحمة الإلهية. إن الحلول القرآنية لمكافحة سوء الظن في العالم الافتراضي واضحة: أولاً، «حسن الظن»؛ افترض النوايا الحسنة للآخرين ما لم يكن هناك دليل قاطع على عكس ذلك، وهذا بحد ذاته عمل عبادي وأخلاقي. ثانياً، «التثبت والتبين»؛ قم بالبحث والتحقق الدقيق من أي معلومات قبل قبولها أو نشرها، وانتبه للمصدر، والدقة، والنية وراء نشر المعلومات. ثالثاً، تجنب «التجسس»؛ لا تتدخل في حياة الآخرين الخاصة ولا تبحث عن نقاط ضعفهم. رابعاً، تجنب «الغيبة والبهتان»؛ حتى لو تشكل شك في ذهنك، لا تتلفظ به ولا تنشره. خامساً، تعزيز الوعي والتثقيف؛ الدعوة إلى الأخلاق القرآنية في الفضاء الافتراضي، وتثقيف المستخدمين حول محو الأمية الإعلامية والتفكير النقدي. وسادساً، تغيير المنظور؛ النظر إلى العالم الافتراضي كأداة للتواصل والخير، وليس مكاناً للصراع والتشاؤم. كل مستخدم يتحمل مسؤولية فردية عن المحتوى الذي ينتجه، يستهلكه، أو ينشره، وهذه المسؤولية مؤكدة أيضاً أمام الله. في الختام، يمكن القول إن القرآن الكريم، على الرغم من عدم الإشارة المباشرة إلى «العالم الافتراضي»، قد وضع بطريقة لا مثيل لها، ومتجاوزة للزمان، مبادئ أخلاقية لا تنطبق فقط على الحياة الواقعية، بل أيضاً على تفاعلاتنا في أكثر الفضاءات الرقمية تعقيداً اليوم. فتجنب سوء الظن والتجسس والغيبة، وعلى النقيض، الاهتمام بالتحقيق وحسن الظن واحترام خصوصية الآخرين، هي حجر الزاوية لمجتمع افتراضي صحي وأخلاقي قائم على التعاليم الإلهية. هذا النهج لا يساعد فقط في الحفاظ على سلامنا النفسي والروحي، بل يؤدي أيضاً إلى خلق بيئة آمنة وبناءة لجميع المستخدمين، بيئة تسود فيها الثقة، ونكون في مأمن من أضرار الأحكام المتسرعة وغير المستندة إلى أساس. إن تعزيز هذه الأخلاق القرآنية في الفضاء الافتراضي هو جهاد ثقافي وروحي في العصر الحديث، يمكنه إنقاذ المجتمع من الفساد والخراب الناجم عن سوء الظن والاتهامات التي لا أساس لها.
يُروى أن رجلاً حكيماً كان يسير في السوق. فرأى تاجراً بوجهٍ عبوسٍ وحزين، يهمس لنفسه بكلمات. فسارع أحد المارة، الذي شهد المشهد، إلى الظن قائلاً: "لا بد أن هذا التاجر قد غش في صفقة، والآن الندم يأكله!" وسرعان ما نشر هذا الظن بين أصدقائه. لكن الرجل الحكيم اقترب بهدوء من التاجر وسأله عن سبب حزنه. تنهد التاجر وقال: "ابني مريض جداً وأخشى على حياته، فقد باءت كل محاولاتي لإيجاد علاج بالفشل." ثم التفت الرجل الحكيم إلى المار وقال: "ألا ترى كيف يستطيع العقل أن يخلق ألف كذبة من تنهيدة واحدة؟ لا تسيء الظن أبداً بناءً على المظاهر، فإن حكمك المتسرع قد يكون إثمًا أعظم من خطأ الآخر المتصور."