نهى القرآن الكريم بشدة عن الغيبة والنميمة (نقل الكلام لإفساد العلاقات) والهمز واللمز (العيوب والسخرية)؛ تُعد هذه الأفعال، التي تدمر الثقة والأخوة، بمثابة أكل لحم الأخ الميت.
يؤكد القرآن الكريم، بصفته كلام الله ودليل الحياة الشامل للإنسان، تأكيدًا كبيرًا على أهمية الصحة النفسية والاجتماعية للأفراد والمجتمعات. ومن أهم سبل تحقيق هذه الصحة هو الحفاظ على طهارة وصدق الكلام. ولهذا، نهى القرآن بوضوح وبجدية تامة عن أنواع مختلفة من النميمة والغيبة وكل أنواع الكلام الضار الأخرى التي تؤدي إلى تدمير العلاقات الإنسانية والقضاء على الثقة في المجتمع. هذه النواهي ليست مجرد توصيات أخلاقية، بل هي أوامر إلهية تهدف إلى إنشاء مجتمع صحي، يتسم بالثقة، ومليء بالرحمة والمودة. إن الحكمة الإلهية وراء هذه الأوامر عميقة جدًا؛ فاللسان أداة قوية يمكن استخدامه للبناء أو للهدم، والقرآن يريد أن يستخدم البشر هذه النعمة للخير والصلاح، وأن يحموا أنفسهم من شرها. أحد أبرز أشكال 'النميمة' التي أدانتها القرآن بشدة هي الغيبة. تُعرف الغيبة بأنها ذكر الشخص بما يكره في غيابه، حتى لو كان ما يقال فيه صحيحًا. يوضح القرآن الكريم بشدة شناعة الغيبة باستعارة قوية ومُنفّرة في سورة الحجرات، الآية 12: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ" هذه الآية تشبه الغيبة بأكل لحم الأخ الميت؛ وهي صورة تثير أقصى درجات الاشمئزاز والنفور في الإنسان. فكما أن الميت لا يستطيع الدفاع عن نفسه، فإن الشخص الغائب لا يستطيع الدفاع عن شرفه وكرامته. الغيبة انتهاك للخصوصية، وهجوم على الكرامة الإنسانية، وقوة مدمرة تقوض روابط الأخوة والأخوات داخل المجتمع. إنها تُنقص من سمعة الشخص، حتى لو كان ما يقال صحيحًا؛ لأن الخوض في خصوصيات الآخرين وكشف عيوبهم هو أمر مذموم ويتعارض مع التعاليم الأخلاقية للإسلام. تربط الآية أيضًا الغيبة بسوء الظن والتجسس، مشيرة إلى أن هذه غالبًا ما تكون مقدمات للغيبة. فالظنون غير المبررة تؤدي إلى التجسس، والذي غالبًا ما ينتج عنه نشر العيوب المكتشفة أو حتى المفتعلة. شكل آخر متميز ومُدان بشدة من 'النميمة' هو النميمة نفسها (نميمة)، أي نقل الكلام بين الناس بهدف إثارة الفتنة، وخلق العداوة، وتمزيق العلاقات. إنها تتعلق بنقل الكلمات من شخص إلى آخر لإلحاق الضرر بالمتحدث الأصلي أو المستمع، أو لإثارة النزاع. يحذر القرآن من هؤلاء الأفراد في سورة القلم، الآيتين 10 و 11، واصفًا إياهم بأنهم شديدو اللوم: "وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ ﴿١٠﴾ هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴿١١﴾" تنهى هذه الآيات صراحة عن طاعة كل من يكثر الحلف، ويكون مهينًا، همازًا (يعيب الناس بالقول والإشارة)، ومشاءً بالنميمة. النميمة من بعض النواحي أكثر تدميرًا من الغيبة؛ لأن هدفها الرئيسي هو إثارة الصراع والكراهية بين الناس. غالبًا ما تتضمن اختلاق أو تضخيم المعلومات لتحويل الناس ضد بعضهم البعض، سواء كان ذلك بين الأصدقاء أو أفراد الأسرة أو حتى المجتمعات بأكملها. هذه الأفعال تدمر التماسك الاجتماعي والثقة، مما يجعل من المستحيل على الناس العيش معًا بسلام وتعاون. وقد أكد النبي محمد صلى الله عليه وسلم أيضًا على خطورة النميمة، قائلاً إن النمام لا يدخل الجنة. علاوة على ذلك، يدين القرآن الهمز واللمز، اللذين يشيران إلى التشهير، والافتراء، والعيب، والسخرية من الآخرين، سواء بالكلمات أو الإيماءات أو التلميحات. تقول سورة الهمزة في الآية 1: "وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ" 'الهمزة' يشير إلى من يعيب الناس بأفعاله أو إيماءاته (مثل الهمس أو إشارة العين)، بينما 'اللمزة' يشير إلى من يعيب الناس بالكلمات واللسان. يؤكد كلا المصطلحين على فعل التقليل من شأن الآخرين أو تحقيرهم، وغالبًا ما يكون ذلك بنية سيئة. هذه الأفعال تجرد الأفراد من كرامتهم وقيمتهم الذاتية، مما يؤدي إلى الإهانة والأذى النفسي. هذا الشكل من 'النميمة' يقوض الاحترام المتبادل والرحمة، وهما من المبادئ الأساسية للسلوك الاجتماعي في الإسلام. إنه يعزز بيئة سلبية يشعر فيها الناس بأنهم يُحكم عليهم ويُدققون باستمرار، بدلاً من أن يكونوا مدعومين ومفهومين. وبعيدًا عن هذه المفاهيم المحددة، يروج القرآن لمبدأ عام مفاده أنه ينبغي قول الخير أو الصمت. إنه يشجع المؤمنين على الحفاظ على الكلام الطيب، وتجنب اللغو، والتحدث بالعدل. أي كلام كاذب أو مخادع أو يهدف إلى إحداث ضرر أو تفرقة فهو محرم ضمنًا أو صراحة. الرسالة العامة واضحة: اللسان أداة قوية يمكن استخدامها للخير أو للشر، والمؤمنون مأمورون باستخدامه لأغراض بناءة – لنشر الحقيقة، وتعزيز الخير، وتقوية الروابط، وتقديم العزاء. الانخراط في 'النميمة' بأي من أشكالها هو انتهاك مباشر لهذه الأوامر الإلهية، مما يؤدي حتمًا إلى الانحطاط الروحي والانهيار الاجتماعي. هذه الأفعال تسمم أجواء الثقة والرحمة التي يريدها الله لعباده. يدعو القرآن مرارًا وتكرارًا إلى الصدق والعدل واللطف في الكلام، مما يجعل أي انحراف عن هذه المبادئ مسألة ذات أهمية قصوى. وبالتالي، فإن التحريم الشامل 'للنميمة' هو شهادة عميقة على التزام الإسلام ببناء مجتمع فاضل يسود فيه الكرامة والاحترام والمودة المتبادلة على الخبث والنزاع والاتهامات الباطلة.
يُروى أنه في الأزمنة القديمة، في مدينة مزدهرة، عاش جاران: أحدهما يُدعى ناصح، وكان رجلاً هادئًا وحكيمًا، والآخر يُدعى قيل وقال، ولم يكن لسانه يتوقف أبدًا عن الثرثرة ونقل كلام هذا وذاك. ذات يوم، سمع قيل وقال حديثًا غير لائق عن أحد وجهاء المدينة، وبدون تردد، كشفه بين الناس وأضاف إليه من عنده. هذا الحديث، مثل شرارة في كومة قش جافة، سرعان ما أشعل نيران الفتنة وأوجد عداوة كبيرة بين الناس وذلك الوجيه. ناصح، الذي شهد هذه الواقعة، اقترب من قيل وقال، وقال بابتسامة ودية: "يا أخي، لسانك حلو، ولكن اعلم أن الكلام سيف ذو حدين؛ يمكن أن يزرع وردة أو شوكة. يقول سعدي: 'ما لم يتكلم الرجل، تظل عيوبه ومحاسنه مخفية.' إذا صمتّ، بقيت سالمًا، وإذا تكلمت بالخير، أصبحت محبوب القلوب. أما النميمة، فتدمر الصداقات وتؤذي القلوب." ومنذ ذلك اليوم، فكر قيل وقال في نفسه وسعى جاهدًا ألا يستخدم لسانه إلا للخير والصلاح، ومنذ ذلك الحين، عاد الهدوء والسلام إلى البيوت والقلوب.