يؤكد القرآن على التعايش السلمي من خلال حرية العقيدة، العدل الشامل، الحوار الحكيم، واحترام التنوع البشري. يهدف إلى خلق عالم تكون فيه الاختلافات مصدر إثراء لا فرقة ونزاع.
في القرآن الكريم، يُعد التعايش السلمي ومبادئه من أهم التعاليم التي تم التأكيد عليها مراراً وتكراراً وبطرق مختلفة ومتعددة. فالإسلام، كدين إلهي، يعتبر السلام والأمن من الاحتياجات الأساسية والجوهرية للبشرية جمعاء، ويدعو المؤمنين إلى حياة قائمة على الاحترام المتبادل، والعدل المطلق، والتفاهم العميق. وهذا المفهوم الشامل لا يشمل العلاقات بين المسلمين بعضهم ببعض فحسب، بل يمتد ليشمل علاقاتهم مع أتباع الديانات الأخرى وحتى مع أولئك الذين يحملون معتقدات وأيديولوجيات مختلفة. يؤكد القرآن بوضوح تام أن الاختلافات والتنوع الموجود بين البشر هي بحد ذاتها علامة واضحة على قدرة الله الكبيرة وحكمته اللانهائية، ولا ينبغي أبداً أن تتحول إلى سبب للنزاع والصراع والشقاق. بل على العكس من ذلك، فإن هذه الاختلافات توفر فرصة ثمينة للتعارف والتفاهم المتبادل، وتساهم بشكل كبير في إثراء الثقافة الاجتماعية والإنسانية، وهو ما يعد من الركائز الأساسية لتحقيق السلام والاستقرار الدائم. من أبرز الآيات القرآنية التي تشير إلى مبدأ التعايش السلمي بوضوح وجلاء، هي الآية 256 من سورة البقرة التي تقول: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» (لا إكراه في الدين؛ قد تبين الرشد من الغي). هذه الآية الشريفة تعتبر حجر الزاوية وأساس حرية العقيدة والدين في الإسلام. يوضح القرآن الكريم بصريح العبارة أن الإيمان يجب أن ينبع من الإرادة الحرة والاختيار الواعي دون أي إكراه، وأن فرض الدين على أي شخص غير جائز على الإطلاق، لأن الإيمان القائم على الإكراه والإجبار يفتقر إلى القيمة الروحية والدوام والاستقرار. هذا المبدأ لا يمنع الإكراه في قبول الإسلام فحسب، بل يضمن أيضاً احترام الخيارات الدينية للآخرين، ويؤكد على حق الإنسان الأصيل في اختيار مساره العقائدي بحرية كاملة. ونتيجة لذلك، تتكون بيئة يسودها التسامح حيث يمكن للأفراد فيها، بغض النظر عن معتقداتهم، أن يعيشوا جنباً إلى جنب بسلام ووئام ويحترموا معتقدات بعضهم البعض، دون أي خوف من الضغط أو الفرض. هذا النهج يعني الاعتراف بحق الآخرين في امتلاك معتقدات مختلفة، ويرسي أساساً لمجتمع تعددي وتعايشي، حيث يتحقق التعايش السلمي بالسلام والعدل. بالإضافة إلى حرية العقيدة، يشدد القرآن الكريم بقوة على وجوب تطبيق العدل والإنصاف في التعامل مع الجميع دون استثناء، حتى مع الخصوم والأعداء. ففي الآية 8 من سورة المائدة نقرأ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط؛ ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى؛ واتقوا الله؛ إن الله خبير بما تعملون). تشير هذه الآية الكريمة إلى أن المشاعر السلبية والكراهية تجاه قوم أو جماعة لا ينبغي أبداً أن تمنع إقامة العدل، حتى لو كانت تلك الجماعة أو القوم يعادونكم. وهذا مبدأ أساسي وجوهري للتعايش السلمي، فالظلم بحد ذاته هو المصدر الرئيسي للعديد من النزاعات والعداوات والصراعات، ويهدم ركائز السلام. عندما يلتزم مجتمع ما، حتى في ظروف العداء، بمبادئ العدالة الراسخة، فإن الثقة المتبادلة تزداد بشكل كبير، وتُفتح سبل السلام والمصالحة. توفر هذه الآية إطاراً أخلاقياً متيناً للعلاقات بين الدول وبين الجماعات، يقوم على الإنصاف والحياد، حتى في مواجهة الاختلافات والعداوات، وتبين أن إقامة العدل هو أقرب إلى التقوى. ويؤكد القرآن أيضاً على أهمية الحوار البناء والدعوة إلى سبيل الحق بالحكمة والموعظة الحسنة والكلمة الطيبة. ففي الآية 125 من سورة النحل جاء: «ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن). تقدم هذه الآية استراتيجية واضحة للتفاعل السلمي مع الآخرين، خاصة في المسائل العقدية والفكرية. فبدلاً من فرض المعتقدات أو استخدام القوة والعنف، يوصي القرآن بالحوار وتبادل الأفكار على أساس الاحترام المتبادل، والمنطق السليم، والجدال بأحسن الطرق وألطفها. هذا النهج يعني قبول حق الآخرين في امتلاك وجهات نظر مختلفة، ويعزز بيئة من الاحترام والتفاهم المتبادل. وهذا يسهل التبادل السلمي للأفكار ويمنع الخلافات الفكرية من التصعيد إلى صراع مسلح. تركز المنهجية القرآنية على الإقناع من خلال العقل واللطف والرحمة، بدلاً من الإكراه أو العدوان، وبالتالي تعزز ثقافة الحوار والمصالحة التي لا غنى عنها للتعايش في مجتمع متنوع. لقد تم تقديم تنوع البشر واختلافاتهم في القرآن كواقع إلهي ومقصود وهادف. ففي الآية 13 من سورة الحجرات يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا؛ إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير). توضح هذه الآية أن الغرض من خلق البشر كشعوب وقبائل متنوعة هو التعارف والتعرف المتبادل، لا التفاخر أو النزاع والعداوة. وهذا التعارف يعني فهم الثقافات والعادات والأفكار المختلفة، مما يثري المجتمع الإنساني ويساهم في بناء جسور التفاهم بين الشعوب، ويؤدي إلى احترام حقوق الآخرين. ترفض هذه الآية صراحة أي تفوق عرقي أو قبلي، وتعلن أن التقوى والإيمان الصادق بالله والعمل الصالح هما المعيار الوحيد للشرف في نظر الله. هذا المنظور يهدم أسس التمييز ويهيئ بيئة للتعايش القائم على المساواة، والكرامة الإنسانية، والاحترام المتبادل. وأخيراً، ينظر القرآن الكريم إلى السلام والمصالحة كخيار مرغوب ومفضل في مواجهة الصراعات والحروب. ففي الآية 61 من سورة الأنفال يقول: «وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله؛ إنه هو السميع العليم). توفر هذه الآية توجيهاً واضحاً للقادة المسلمين بأنه إذا مال الطرف الآخر إلى السلام، فعليهم أيضاً الميل إليه والاستجابة له بحكمة وإيجابية. هذا يدل على إعطاء الأولوية للسلام على الحرب، واستعداد الإسلام لإنهاء الصراعات من خلال التفاوض والاتفاق. يوفر هذا المبدأ إطاراً للحل السلمي للنزاعات ويسعى إلى حلول سلمية بدلاً من استمرار العداوة. إن هذا الاستعداد للسلام لا يعني فقط عدم البدء بالحرب، بل يعني أيضاً قبول فرص السلام كلما كان الطرف الآخر مستعداً لذلك، ويؤكد أن الإسلام هو دين السلام والتعامل الحسن. باختصار، يقدم القرآن الكريم، من خلال التأكيد على حرية العقيدة، والعدل الشامل، والحوار بحكمة ولطف، واحترام التنوع البشري، خارطة طريق شاملة ومتكاملة لتحقيق التعايش السلمي والمستدام. هذه التعاليم ليست للمسلمين فحسب، بل تحمل رسالة سلام وتفاهم واحترام متبادل لجميع البشرية، وتسعى إلى خلق عالم تصبح فيه الاختلافات، بدلاً من أن تكون مصدراً للفرقه والنزاع، مصدراً للغنى والتآزر، ويسكن فيه الجميع بسلام وأمان وازدهار.
يُروى أنه في الأزمنة الغابرة، كان حكيمٌ يمرُّ بطريق، فرأى في سبيله جماعتين تتنازعان بشدة وصراخ على قطعة أرض صغيرة، يتبادلان اللوم بغضب. كانت إحداهما تقول: "هذه الأرض ملكنا!" وترد الأخرى: "أبداً! إنها ميراث آبائنا." اقترب الحكيم منهم بوجه بشوش ولسان لين، قائلاً: "يا أصدقائي، أتعلمون أن أرض الله الواسعة، رحبةٌ لدرجة أنها تسع جميع الكائنات؟ ولكن إذا كانت قلوبنا أضيق من الأرض، فلن نجد السلام والهدوء أبداً. يا إخوتي، تعلموا درساً من الطبيعة. الأنهار لا تنفصل لكي تتحارب، بل تجتمع لتشكل بحراً أعظم. أنتم أيضاً يمكنكم أن تجعلوا اختلافاتكم جسراً للتفاهم، لا جداراً للفصل. حقاً، في هذا العالم، نحن بحاجة إلى مشاركة ما نحن عليه أكثر من حاجتنا لتقسيم ما نملك." بهذه الكلمات الحكيمة، دخلت الجماعتان في تفكير عميق، وعاد السلام إلى جمعهم، لأنهم أدركوا أن التعايش السلمي ليس ممكناً فحسب، بل هو الطريق الوحيد للوصول إلى الطمأنينة والرخاء.