القرآن يرى التنوع الثقافي والعرقي آية من آيات الله وفرصة للتعارف والتعاون. ومعيار التفوق في الإسلام هو التقوى وحدها، وليس العرق أو اللون.
القرآن الكريم، بصفته كلام الله وهادي البشرية، يقدم رؤية واضحة وشاملة ومتقدمة جدًا حول مسألة التنوع الثقافي والعرقي. لا يرى هذا الكتاب المقدس التنوع حقيقة لا يمكن إنكارها فحسب، بل يعتبره من آيات وعلامات قدرة الله تعالى وحكمته اللامحدودة، ويولي له هدفًا ساميًا. في الرؤية القرآنية، الفروق الظاهرية، واللغوية، والعرقية، والثقافية ليست مصدرًا للتفوق والفخر لجماعة دون أخرى، ولا سببًا للتمييز، والعداوة، والنزاع؛ بل إن هذه الفروق كلها توفر أساسًا للتعارف، والتعاطف، والتعايش السلمي بين البشر. يرفض القرآن صراحة العنصرية وأي شكل من أشكال التمييز القائم على لون البشرة أو اللغة أو القبيلة، ويجعل معيار التفوق الوحيد هو التقوى والورع. هذا التعليم هو العمود الفقري للنظرة القرآنية للتنوع ويتم التأكيد عليه مرارًا وتكرارًا في آيات مختلفة. من أهم الآيات في هذا السياق هي الآية 13 من سورة الحجرات، التي تقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). هذه الآية توضح بوضوح عدة نقاط أساسية: أولاً، الأصل المشترك لجميع البشر من زوج واحد (آدم وحواء)، مما يؤكد على الوحدة الجوهرية للبشرية ويقطع جذور أي عنصرية. ثانيًا، تذكر الغرض من خلق "الشعوب والقبائل" بـ "لتعارفوا". هذا "التعارف" يتجاوز مجرد المعرفة البسيطة؛ إنه يعني الفهم المتبادل، والتبادل الثقافي، والتفكير المشترك، والتعاون. هذا التعارف يمكن أن يؤدي إلى تطوير الحضارة الإنسانية، وحل سوء التفاهمات، وإقامة عالم قائم على السلام والاحترام المتبادل. ثالثًا، يعتبر المعيار الحقيقي للتفوق هو التقوى فقط. وهذا يعني أنه لا يمكن لأي عرق أو لون أو لغة أو وضع اجتماعي أن يثبت تفوق شخص على آخر، بل القيمة الحقيقية للإنسان تكمن في مدى ورعه، وعدله، وأخلاقه الحسنة، وقربه من الله. بالإضافة إلى ذلك، يعتبر القرآن الكريم في سورة الروم، الآية 22، تنوع اللغات والألوان من آيات وعلامات الله العظيمة: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ" (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين). هذه الآية تحمل رؤية إيجابية وإلهية تمامًا للتنوع. فالتنوع في هذه النظرة ليس نقصًا أو ضعفًا، بل هو تجلي لجمال الله وعظمته وإبداعه الفريد. فتمامًا كما أن الحديقة أجمل بأزهارها المتنوعة، يصبح المجتمع البشري أكثر ثراءً وحيوية بتنوع ثقافاته وأعراقه ولغاته. تدعو هذه الآية إلى التأمل في هذه الظواهر وفهم الحكمة الإلهية وراءها. يؤكد القرآن أيضًا على وحدة الهدف الإلهي للبشرية، على الرغم من تنوع الأديان والشرائع في فترات مختلفة. في سورة المائدة، الآية 48 يقول: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات). تُظهر هذه الآية أن حتى التنوع في المناهج الدينية يترافق مع حكمة إلهية، والهدف منه هو "الابتلاء" والتشجيع على "الاستباق في الخيرات". هذا المفهوم يؤكد ضمنيًا على احترام معتقدات الآخرين والسعي لإيجاد نقاط مشتركة لتقدم البشرية. ختامًا، لا يقر القرآن الكريم التنوع الثقافي والعرقي فحسب، بل يعتبره جزءًا لا يتجزأ من الخلق ونعمة إلهية. يوفر هذا التنوع أساسًا للإثراء البشري، وتبادل المعارف والخبرات، والتعارف المتبادل. رسالة القرآن بخصوص التنوع هي رسالة للتعايش السلمي، والاحترام المتبادل، والتأكيد على القيم الإنسانية المشتركة التي تتجاوز أي اختلافات ظاهرية. تعلمنا هذه التعاليم أن نستقبل الاختلافات بأذرع مفتوحة ونستخدمها لبناء عالم أكثر عدلاً ورأفة، عالم يحل فيه التضامن القائم على التقوى والإنسانية المشتركة محل التعصبات العرقية والثقافية.
في گلستان سعدي، يُروى أن ملكًا عادلًا كان يفضل أحد رفاقه، وهو رجل عادي ليس من أصل نبيل، أكثر من بقية حاشيته. فغار الآخرون وقالوا: "أيها الملك، كيف تفضل هذا الرجل العادي علينا ونحن من عائلات نبيلة وذات سمعة طيبة؟" ابتسم الملك وقال: "ألا تعلمون أن العظمة الحقيقية تكمن في الفضيلة والحكمة، لا في النسب أو العرق. يجب أن يُحكم على الناس بجوهر وجودهم، لا بمظهرهم الخارجي أو لونهم. فربما تلمع قطعة خزف بجوار الشمس، وربما تظل جوهرة مدفونة تحت التراب." ثم أضاف: "لقد خُلقتم جميعًا من تراب واحد، وإذا نظرتم جيدًا، فإن الاختلافات موجودة فقط لتتعارفوا على بعضكم البعض بشكل أفضل وتتسابقوا في الخير والتقوى. العظمة والشرف عند الله يعودان للقلوب النقية والأعمال الصالحة، لا للأصل أو النسب أو لون الوجه."