يعارض القرآن الكريم الإفراط والاستهلاكية، مؤكداً على الاعتدال، الشكر، والابتعاد عن الإسراف والتبذير. يدعو هذا النهج إلى استخدام النعم بشكل مسؤول وهادف لتجنب التعلق المفرط بالدنيا.
القرآن الكريم، كتاب الهداية والنور، يتناول في تعاليمه بشكل صريح وحاسم موضوع الاستهلاكية والإفراط في التمتع بالنعم الإلهية. إن وجهة نظر القرآن في هذا المجال هي نظرة شاملة ومتوازنة تدعو الإنسان إلى الاعتدال، الشكر، والابتعاد عن الإسراف والتبذير. في الرؤية القرآنية، العالم وما فيه هو أمانة من الله، وُضعت في تصرف الإنسان للاستخدام الصحيح والمسؤول. هذا الموقف يمهد لفهم أعمق لمفهوم الاستهلاك والابتعاد عن الإفراط فيه. في آيات عديدة، ينتقد الله صراحة المسرفين والمبذرين، ويذكر أنه لا يحبهم. الإسراف لا يعني فقط الإفراط في الأكل والشرب، بل يشمل أي نوع من الاستهلاك المفرط، إهدار الموارد، تجاوز حد الاعتدال في أي أمر، والإهمال في استخدام الإمكانيات. الاستهلاكية الحديثة، القائمة على الإنتاج والاستهلاك المتواصل، مذمومة من منظور القرآن، لأنها تفرغ الروح البشرية من القيم الروحية وتدفعها نحو التعلقات الدنيوية والمادية. من أهم تعاليم القرآن في هذا السياق هو مبدأ «الاعتدال» و«التوازن». يقول الله في سورة الفرقان، الآية 67: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا». هذه الآية توضح بجلاء أنه حتى في الإنفاق، وهو عمل خيري، يجب مراعاة الاعتدال، فما بالك بالاستهلاك الشخصي. الإفراط والإسراف ينبعان من عدم الشكر ونسيان الأصل والمعاد. عندما يعتبر الإنسان النعم الإلهية حقه المسلم ويستخدمها دون قيود، فإنه في الواقع يغفل عن شكر المنعم ويتجه نحو كفران النعمة. يحذر القرآن الكريم الناس من التمتع بالزينة والطيّبات الحلال الإلهية، ولكن لا يجوز لهم تجاوز الحد، لأن الله لا يحب المسرفين: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (سورة الأعراف، الآية 31). هذه الآية تحدد قاعدة عامة وأساسية في الاستهلاك تتجاوز الأكل والشرب لتشمل أي نوع من الاستهلاك والاستخدام. النتائج السلبية للإسراف والاستهلاكية من منظور القرآن هي فردية واجتماعية على حد سواء. على المستوى الفردي، يؤدي الإسراف إلى قساوة القلب، التعلق بالدنيا، نسيان الآخرة، والبعد عن الله. الشخص المسرف يسعى دائمًا لإشباع شهواته ويفضل الملذات المادية على الكمالات الروحية. هذه الحالة تخرجه من طريق العبودية وتدفعه نحو الغرور والغرور بالنفس. على المستوى الاجتماعي، تؤدي الاستهلاكية المفرطة إلى التفاوتات الاقتصادية، ضياع حقوق المحرومين، تلوث البيئة، والمنافسة غير الصحية لجمع المزيد من المال. عندما تستهلك مجموعة من المجتمع أكثر من حاجتها، لا توزع الموارد بشكل عادل، وتواجه شريحة واسعة من المجتمع الفقر والحرمان. يدعو القرآن مرارًا المسلمين إلى دفع حقوق الفقراء والمساكين من أموالهم والإنفاق في سبيل الله. هذه التوصيات هي في الواقع وسيلة لمواجهة تركيز الثروة ومنع الإفراط في الاستهلاك. علاوة على ذلك، ينهى القرآن بشدة عن التبذير، وهو إهدار المال والإمكانيات دون داعٍ، ويصف المبذرين بأنهم إخوان الشياطين: «إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا» (سورة الإسراء، الآية 27). هذا التعبير قاطع للغاية ويظهر قبح التبذير في نظر القرآن. التبذير لا يشمل فقط رمي الطعام أو إهدار الماء، بل يشمل إنفاق المال في طرق غير ضرورية وغير مفيدة، شراء السلع الفاخرة وغير الضرورية، وأي نوع من الإسراف الذي لا يعود بالنفع على الفرد أو المجتمع. من ناحية أخرى، ينصح القرآن الناس بالاستمتاع بالحياة واستخدام النعم الإلهية، ولكن يجب أن يكون هذا الاستخدام مصحوبًا بالحكمة، الهادفة، والشكر. الهدف من الحياة في الدنيا ليس جمع المال والملذات المادية، بل عبادة الله وكسب رضاه. الاستهلاكية تمنع الإنسان من هذا الهدف الرئيسي وتوقعه في دوامة لا نهاية لها من الرغبات المادية. لذلك، من خلال التأكيد على القناعة، الشكر، الإنفاق، والابتعاد عن الإسراف والتبذير، يقدم القرآن نموذجًا للحياة المتوازنة التي تلبي احتياجات الإنسان المادية وتوجهه نحو الكمالات الروحية. هذا المنظور حيوي ليس فقط للفرد، بل لاستدامة المجتمع والبيئة أيضًا، ويقدم نموذجًا لنمط حياة مسؤول وفاضل. في الختام، يجب القول أن القرآن، من خلال التأكيد على هذه المبادئ، يعتبر أن السعادة الحقيقية تكمن ليس في التعلق بالدنيا والإفراط في الاستهلاك، بل في الاستخدام المعقول والهادف للنعم من أجل الوصول إلى القرب الإلهي.
يُحكى أن رجلاً ثرياً وميسور الحال كان يمد كل يوم مائدة فاخرة مليئة بالأنواع المختلفة من النعم، وكان يرمي أكثر مما يأكل. ذات يوم، مر سعدي بجوار منزله ورأى هذا الإسراف. فقال له: «أيها الشهم، لم أر قط حبة خبز تسقط من مائدة فقير، بينما أنت ترمي كل هذه النعم الإلهية بلا مبالاة.» رد الرجل: «مالي هو لي، وأفعل ما يشاء قلبي.» فقال سعدي بابتسامة لطيفة: «المال مالك، ولكن النعمة من الله. إياك أن ترد شكر النعمة بكفرانها، فلو أن فقيراً شبع من حبة خبز واحدة، لكانت قيمتها عند الله أعظم من كل هذا البذخ الفارغ.» تأثر الرجل بهذه الكلمات، ومنذ ذلك الحين، بدلاً من الإسراف، اتجه نحو العطاء والاعتدال، فزادت البركة في حياته.