المعيار الأساسي للخير والشر في القرآن هو إرادة الله وأوامره، التي تم توضيحها عبر الوحي. فالأعمال المتوافقة مع الأمر الإلهي ورضاه تُعتبر خيرًا، بينما ما يخالف ذلك يُعتبر شرًا.
معيار الخير والشر في المنظور القرآني، من جانب، يستند إلى إرادة الله تعالى وأوامره التي تم توضيحها من خلال الوحي إلى أنبيائه، وبالأخص القرآن الكريم. هذا يعني أن الخير المطلق هو كل ما اعتبره الله حسنًا وأمر به، والشر المطلق هو كل ما نهى الله عنه واعتبره مكروهًا. يتجاوز هذا المنظور المعايير العقلانية البحتة، أو الاجتماعية، أو الذوقية، لأن عقل الإنسان والعرف المجتمعي قد يخطئان في التمييز الكامل بين الخير والشر أو قد يتأثران بالأهواء النفسية والمصالح الزائلة. فالخالق وحده، بعلمه المطلق وحكمته اللانهائية، يعلم ما هو في مصلحة الإنسان وخيره الحقيقي في الدنيا والآخرة. أحد المفاهيم القرآنية المحورية في هذا الصدد هو مبدأ "التوحيد". فالخير الأعظم هو معرفة الله الواحد الأحد وعبادته والخضوع له وحده، بينما الشر الأعظم هو "الشرك" أي إشراك غير الله معه في العبادة. التوحيد هو أساس جميع المبادئ الأخلاقية والقيم السامية في الإسلام. فكل عمل يقرب الإنسان من الله ويكون في طريق عبوديته يعتبر خيرًا، وكل عمل يبعده عن الله ويقوده نحو الشرك أو الطغيان يعتبر شرًا. القرآن الكريم يذكر تفصيلاً أمثلة الخير والشر في أبعاد الحياة الفردية والاجتماعية المختلفة. "العدل" (العدل والقسط) هو من أبرز صور الخير التي تم التأكيد عليها مرارًا في القرآن. فالله تعالى يأمر بقوة بإقامة العدل في جميع شؤون الحياة، سواء في القضاء، المعاملات، العلاقات الأسرية والاجتماعية. و"الظلم" يعتبر من أكبر الشرور والمحرمات الإلهية. وهذا يشمل الظلم للنفس، والظلم للآخرين، والظلم للبيئة. يدعو القرآن الكريم المسلمين إلى مراعاة حقوق الآخرين، والأمانة، والابتعاد عن الربا، والغش في التعاملات، وأي شكل من أشكال الاستغلال الجائر. الآية 90 من سورة النحل تبين بوضوح: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون). هذه الآية هي بمثابة ميثاق أخلاقي شامل، يشمل الجوانب الإيجابية (العدل، الإحسان، صلة الرحم) والسلبية (النهي عن الفحشاء، المنكر، البغي) للخير والشر. مفهوم آخر أساسي هو "الإحسان"، ويعني إتقان العمل وتجاوز الحد الواجب. يشمل هذا الإحسان إلى الوالدين، والأقارب، واليتامى، والمساكين، والجيران. الإحسان هو تجسيد عملي للخير في المجتمع ويساهم في تعزيز العلاقات الإنسانية والتكافل الاجتماعي. في المقابل، كل ما يؤدي إلى تدمير العلاقات، وخلق الكراهية والبغضاء، وإضعاف التكافل الاجتماعي، هو شر. "التقوى" أو خشية الله والورع، ليست فقط صفة أخلاقية، بل هي معيار للتمييز بين الخير والشر في الحياة اليومية. الشخص التقي يطابق دائمًا أعماله بالأوامر الإلهية ويتجنب ما حرمه الله. هذه الحالة الداخلية تمنح الإنسان بصيرة لكي يميز بين الحق والباطل، والخير والشر. وقد أمر القرآن مرارًا الأنبياء والمؤمنين بـ"الأمر بالمعروف" (الخير) و"النهي عن المنكر" (الشر). هذا المبدأ، "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، هو أيضًا أحد الأعمدة الرئيسية للنظام الأخلاقي في الإسلام وأساس مكافحة الشر وتعزيز الخير في المجتمع. يؤكد القرآن أيضًا على مسؤولية الإنسان عن أعماله ويشرح بوضوح عواقب الخير والشر في الدنيا والآخرة. الأعمال الصالحة تؤدي إلى الأجر الإلهي، والراحة النفسية، والرضا الداخلي، بينما الأعمال الشريرة تؤدي إلى العذاب الإلهي، والاضطراب، والندم. هذه النظرة تحفز الإنسان على فعل الخيرات وتجنب السيئات، إذ لا يبقى عمل بدون جزاء. حتى ما يعتقده الإنسان خيرًا أو شرًا قد يكون في الحقيقة مختلفًا، والله أعلم بحقيقة الأمور. "وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (البقرة: 216). هذه الآية تبين أن المعيار النهائي للخير والشر مرتبط دائمًا بعلم الله وإرادته. بالإضافة إلى ذلك، تلعب "الفطرة" الإنسانية دورًا مهمًا في المنظور القرآني. لقد خلق الله الإنسان بفطرة نقية وميل نحو الحق والخير. تمنح هذه الفطرة الإنسان القدرة الأولية على التمييز بين الخير والشر، ولكن بسبب التأثيرات البيئية والتربوية والوساوس الشيطانية، قد تنحرف عن مسارها الأصلي. لذلك، فإن الوحي والإرشاد الإلهي ضروريان لاستكمال وتصحيح هذا التمييز الفطري. تعبر الآيات 7-10 من سورة الشمس عن هذا المفهوم بجمال: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها). تظهر هذه الآيات أن الله قد وضع قوة التمييز بين الخير والشر في طبيعة الإنسان، لكن الفلاح يتوقف على تزكية النفس واتباع طريق التقوى. في الختام، يمكن القول أن معيار الخير والشر في القرآن هو إطار شامل يغطي جميع أبعاد وجود الإنسان وعلاقاته مع الله، ومع نفسه، ومع الآخرين، ومع الطبيعة. هذه المعايير مطلقة، موضوعية، وإلهية، وتهدف إلى هداية الإنسان نحو السعادة الأبدية وحياة مليئة بالسلام والعدل. في هذا المسار، لا يكتفي القرآن الكريم بتقديم المبادئ العامة فحسب، بل يقدم أيضًا أحكامًا وتوجيهات عملية، توضح الطريق للإنسان لكي يتمكن دائمًا من التمييز بين طريق الخير والشر ويبني حياته على ما يرضي الله.
يُحكى أن كسرى أنوشيروان العادل، كان يبني صيدًا (قصرًا للصيد)، واحتاج إلى الملح. فنصحه وزراؤه بإحضار الملح من القرى المجاورة دون فرض ضرائب على أهلها. لكن موظفًا جديدًا أصر على أن يتم فرض ضريبة حتى على الملح المستخدم في البناء لزيادة خزينة الدولة. فأجابه وزير أنوشيروان الحكيم بلطف: "أيها الشاب، إنك غافل عن عواقب الأمور. إن أساس الظلم في العالم كان صغيرًا في البداية، وكل من جاء أضاف إليه حتى بلغ ما هو عليه الآن. فإذا أخذ الملك تفاحة واحدة من بستان، فإن خدمه سيقتلعون الشجرة من جذورها! يجب علينا أن نحرص على ألا نروج حتى لأصغر الذنوب والمظالم، فمن هذه البذور الصغيرة تنمو أشجار الشر العظيمة وتلقي بظلالها على حياة الناس. وكذلك الخير والعدل؛ يبدآن بأفعال صغيرة ويؤديان إلى فضائل عظيمة." تعلمنا هذه الحكاية أن نتفكر دائمًا في منشأ أعمالنا وعواقبها، وأن ندرك أن الخير والشر ينبعان من أصغر نوايانا وأفعالنا، ولهما نتائج كبيرة.