العدل الحقيقي في القرآن هو وضع كل شيء في موضعه الصحيح وإعطاء الحقوق لأصحابها، وينبع من الصفات الإلهية. يتحقق ذلك بتقوى الفرد والالتزام بالعدل في القضاء، الاقتصاد، والعلاقات الاجتماعية، ومكافحة الظلم والوفاء بالعهود هي من أركانه الأساسية.
مفهوم العدل في الرؤية القرآنية يحتل مكانة رفيعة للغاية، وهو أحد الأعمدة الأساسية التي يبنى عليها المجتمع الإنساني والحياة الفردية. القرآن الكريم لا يكتفي بتعريف العدل نظريًا، بل يقدم حلولًا عملية ومفصلة لتحقيقه في جميع جوانب الحياة الفردية والاجتماعية. العدل، من منظور القرآن، ليس مجرد مساواة مطلقة أو توزيع متساوٍ لكل شيء، بل هو وضع كل شيء في موضعه الصحيح، وإعطاء الحق لصاحبه، ومراعاة التوازن والتناسب في جميع الأمور. هذا المفهوم متجذر في الصفات الإلهية؛ فالله سبحانه وتعالى هو "العدل" ولا يظلم أبدًا، ولذلك يطلب من عباده أن يكونوا مظهرًا لهذه الصفة على الأرض. يأمر القرآن الكريم صراحة وبشدة بإقامة العدل. يشمل هذا الأمر جميع الأفراد، أياً كان موقعهم أو منصبهم. في سورة النساء، الآية 58، يقول الله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أصحابها، وإذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل. نِعْمَ ما يعظكم به الله! إن الله كان سميعًا بصيرًا.) هذه الآية توضح بجلاء المسؤولية الجسيمة للحكم والقضاء على أساس العدل. علاوة على ذلك، في سورة المائدة، الآية 8، يؤكد على ضرورة الثبات على العدل حتى في مواجهة الأعداء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (يا أيها الذين آمنوا، كونوا قوّامين بالحق والعدل، لله وحده، شاهدين بالعدل، ولا تحملنكم عداوة قوم على أن لا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى. واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون.) هذه الآية تمثل ذروة مفهوم العدل القرآني الذي يوجب الحياد والإنصاف حتى في حالات العداوة والخصومة. تحقيق العدل الحقيقي في ضوء التعاليم القرآنية يتطلب نهجًا متعدد الأوجه: 1. العدل الفردي (التقوى وتهذيب النفس): ينبع العدل أساسًا من داخل الفرد. فالشخص العادل هو الذي لا يظلم نفسه أولاً ويعترف بحقوقه وحقوق الآخرين. يبدأ هذا بمعرفة الذات، والتحكم في الأهواء النفسية، والابتعاد عن الذنوب التي تؤدي إلى الظلم (مثل الجشع والحسد والكبر). التقوى، أي خشية الله وورعه، هي أهم عامل داخلي لتحقيق العدل، لأن الشخص التقي يرى نفسه دائمًا في حضرة الله ويجتنب ظلم الآخرين. يؤكد القرآن في سورة النساء، الآية 135، على أهمية العدل في الشهادة، حتى لو كانت ضد النفس أو الوالدين والأقربين: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا ۚ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا" (يا أيها الذين آمنوا، كونوا قوّامين على العدل، شهداء لله، ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنيًا أو فقيرًا فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا. وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا.) هذه الآية تبين أن العدل يجب أن يتقدم على أي مصلحة فردية أو جماعية. 2. العدل الاجتماعي والحكومي: يؤكد القرآن على ضرورة إقامة نظام اقتصادي واجتماعي عادل. يشمل هذا: * العدل في القضاء والقانون: يجب على الحكام والقضاة أن يحكموا بنزاهة وعلى أساس الحق (كما ورد في 4:58 و 5:8). لا ينبغي لأحد أن يكون فوق القانون ويجب احترام حقوق الجميع بالتساوي. * العدل الاقتصادي: التوزيع العادل للثروة، ومكافحة الربا، والاحتكار، وأي شكل من أشكال الاستغلال. التشجيع على الزكاة والصدقات لمكافحة الفقر وخلق التضامن الاجتماعي. يؤكد القرآن الكريم في آيات متعددة على التوزيع العادل للأموال ومنع تركيز الثروة في أيدي قلة (مثل الآية 7 من سورة الحشر). * العدل في العلاقات الاجتماعية: احترام حقوق الجيران والأيتام والفقراء والمساكين وجميع فئات المجتمع. منع التمييز وإقامة الأخوة الإسلامية. 3. الوفاء بالعهود والمواثيق: يؤكد القرآن الكريم بشدة على الوفاء بالعهود والمواثيق، سواء مع المسلمين أو غير المسلمين، وهذا بحد ذاته ركن أساسي من أركان العدل. فنقض العهد يعتبر نوعًا من الظلم. 4. نبذ الظلم والجور: ينهى القرآن بشدة عن الظلم والجور ويعتبره من أكبر الذنوب. يشمل الظلم أي اعتداء على حقوق الآخرين، سواء كانت مادية أو معنوية. وقد قال الله تعالى إنه حرم الظلم على نفسه وجعله محرمًا بين الناس. مكافحة الظلم ومساعدة المظلومين هي من أهم مظاهر تحقيق العدل. 5. تأثير الإيمان والمعاد: الإيمان باليوم الآخر والحساب يمثل رادعًا عن الظلم ومحفزًا على إقامة العدل. فالإنسان يعلم أن كل عمل يقوم به، خيرًا كان أو شرًا، سيحاسب عليه يوم القيامة، وسيرى نتائجه. هذا الإيمان الداخلي يساعد على الحفاظ على العدل في الخفاء والعلن. كما أن الإيمان بالله وصفاته العادلة يمنح الإنسان الدافع للسير في طريق العدل وتطبيقه في حياته. في الختام، يتحقق العدل الحقيقي في المجتمع عندما يقوم أفراده، أولاً على المستوى الفردي، بتزيين أنفسهم بنور التقوى والإيمان، ثم في جميع تعاملاتهم، من أصغر القرارات اليومية إلى أكبر القوانين الحكومية، يجعلون العدل معيارهم. إنها عملية مستمرة وشاملة تتطلب جهدًا جماعيًا وقيادة واعية وعادلة. لقد مهد القرآن الكريم، بتعاليمه الواضحة والمتكررة، الطريق لتحقيق هذا المثل الإلهي.
في گلستان سعدي، يُروى أن أنوشروان العادل كان في رحلة صيد واحتاج إلى ملح لشواء صيده. فأرسل خادمًا إلى القرية ليأتي بالملح. قال أنوشروان: "اشترِ الملح بالثمن المستحق، لئلا يدخل الظلم إلى القرية ويهدمها." فقيل له: "وما الضرر من هذا القدر اليسير؟" قال: "أساس الظلم في العالم بدأ صغيرًا، فكل من جاء أضاف عليه شيئًا حتى بلغ هذا الحد. إذا أخذ ملك تفاحة واحدة من بستان أحدهم بالقوة، فإن جنوده سيقتلعون الشجر من جذوره." تعلمّنا هذه الحكاية الجميلة أن العدل الحقيقي يبدأ من أصغر الأعمال، ويجب ألا نستهين بالظلم مهما كان تافهاً. لأن الظلم الصغير يمكن أن يضع الأساس لظلم كبير، ويزعزع سلام المجتمع. فلنسعَ دائمًا إلى تطبيق العدل في كل خطوة من حياتنا لنحظى بعالم مزدهر ومليء بالحب.