يرى القرآن معاناة الأطفال ابتلاءً إلهيًا ونتيجة لأفعال البشر أحيانًا، لا عقابًا على ذنوبهم. هذه المصاعب فرص للصبر والنمو الروحي ومكافأة عظيمة في الآخرة، ومسؤولية على المجتمع لمساعدة المحتاجين.
سؤال لماذا يولد بعض الأفراد، وخاصة الأطفال الأبرياء، في معاناة منذ الصغر هو أحد أعمق وأصعب التساؤلات الوجودية التي شغلت البشرية عبر التاريخ. يحمل هذا السؤال أهمية كبيرة ليس فقط من الناحية الفلسفية ولكن أيضًا من الناحية الدينية. القرآن الكريم، بصفته كلام الله، لا يتناول هذا السؤال بالتحديد بإجابة مباشرة ومبسطة مثل "لماذا ولد هذا الطفل في معاناة؟". بدلاً من ذلك، يقدم إطارًا شاملاً وكليًا لفهم ظاهرة المعاناة والابتلاءات والمحن في هذه الحياة الدنيا. هذا الإطار مبني على مبادئ أساسية مثل الحكمة الإلهية، والعدل الإلهي، وطبيعة هذا العالم كدار اختبار، ودور أفعال الإنسان، والجزاء في الآخرة. يمكن أن يساعد فهم هذه المبادئ الإنسان على التعامل مع هذه الحقيقة القاسية وإيجاد معنى لها، بدلاً من البحث عن إجابة بسيطة وذات بعد واحد لكل حالة محددة. أحد أهم المفاهيم التي يقدمها القرآن لتفسير المعاناة والمصاعب هو مفهوم "الابتلاء". الحياة الدنيا في المنظور القرآني هي دار ابتلاء؛ مكان لإظهار جوهر الكائنات البشرية، وليست مكانًا للراحة المطلقة أو العدالة الكاملة. يشير الله تعالى إلى هذه الحقيقة في آيات عديدة. على سبيل المثال، في سورة البقرة، الآية 155، نقرأ: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ". توضح هذه الآية أن الخوف والجوع والفقر والمرض وفقدان الأحباء (وكلها يمكن أن تنعكس في معاناة الطفولة) هي أجزاء لا مفر منها من الابتلاء الإلهي. الغرض من هذه الابتلاءات هو قياس إيمان الإنسان وصبره وشكره وثباته في مواجهة الشدائد. هذه الاختبارات ليست لأن الله لا يعلم بحالنا، بل لكي ندرك نحن والآخرون حقيقة إيماننا وتتاح لنا فرصة للنمو والارتقاء. سورة الملك، الآية 2، تعزز هذا المفهوم: "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ". من هذا المنظور، حتى الولادة في ظروف صعبة ومؤلمة يمكن أن تكون جزءًا من هذا التصميم الإلهي لاختبار البشرية؛ اختبار للطفل (بالمعنى الروحي، حتى لو لم يتم اختباره بوعي)، للوالدين، وللمجتمع الذي يشهد هذه المعاناة. مبدأ آخر أساسي هو الحكمة المطلقة والعدل اللانهائي لله. الله حكيم، وكل ما يفعله مبني على حكمة عميقة ومعرفة لا حدود لها قد لا يفهمها العقل البشري المحدود. أحيانًا، ما يبدو لنا معاناة ومصيبة يحتوي في جوهره على خيرات وبركات خفية لا تظهر إلا مع مرور الوقت أو في الآخرة. يؤكد القرآن بشدة على العدل الإلهي؛ فالله لا يظلم أحدًا أبدًا، ولا تحمل نفسٌ وزرَ أخرى أبدًا (سورة الأنعام، الآية 164: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ"). لذلك، معاناة الطفل البريء ليست أبدًا بسبب خطاياه (فالطفل بريء) أو خطايا والديه (بمعنى أن الله يعاقبه على ذنوب الآخرين). بدلاً من ذلك، هذه المعاناة، مهما كانت صعبة، هي جزء من نظام الابتلاء الأوسع والحكمة الإلهية، والتي توفر فيها فرصًا للصبر والثبات والجزاء العظيم. قد يكون هذا الوضع اختبارًا للوالدين والمجتمع المحيط لإظهار الرحمة والشفقة والتعاطف. الكثير من المعاناة التي يواجهها الأطفال منذ الولادة، وخاصة في المناطق الفقيرة أو التي مزقتها الحروب، هي نتيجة مباشرة لأفعال البشر وخياراتهم. الفقر، والأمراض الناتجة عن سوء التغذية، والحروب، والتمييز، والظلم الاجتماعي غالبًا ما تكون نتاج قرارات بشرية خاطئة، وسوء إدارة، وطمع، وتجاهل لحقوق الآخرين. في سورة الروم، الآية 41، يقول القرآن: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ". تشير هذه الآية إلى أن جزءًا كبيرًا من المعاناة والمشاكل في العالم هو نتيجة مباشرة لأعمال البشر، وليس مجرد قدر إلهي محتوم. ضمن هذا الإطار، يمكن أن تكون ولادة طفل في بيئة تعصف بها الفقر أو الحرب نتيجة لسلسلة من الاختيارات البشرية الخاطئة على المستويين الفردي والجماعي، مما يؤدي إلى كوارث إنسانية. وبالتالي، فإن مسؤوليتنا كبشر لمعالجة هذه القضايا وإقامة العدل هي أمر بالغ الأهمية. بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في معاناة ويتحملون هذه الصعوبات بصبر وإيمان، يعد القرآن أجورًا لا تحصى في الآخرة. سورة الزمر، الآية 10، تقول: "قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ". هذا الأجر يشمل جميع الصابرين، بمن فيهم الأطفال الأبرياء الذين عانوا في الحياة والذين قد لا تكون لديهم القدرة على الاختيار أو المقاومة الواعية. في المعتقد الإسلامي، الأطفال الذين يتوفون قبل بلوغهم يدخلون الجنة ويكونون شفعاء لوالديهم. يمكن اعتبار معاناتهم في الدنيا مطهرًا يرفع من مكانتهم في الآخرة. علاوة على ذلك، تعد معاناة الأطفال اختبارًا عظيمًا لبقية البشر والمجتمعات. لقد كلفنا الله بمسؤولية أن نكون رحيمين ببعضنا البعض، وأن نساعد المحتاجين، وأن نسعى جاهدين للقضاء على الظلم والجور. لا يُقصد من مشاهدة معاناة الأطفال تبرير اللامبالاة، بل إيقاظ مشاعر التعاطف والمسؤولية الاجتماعية والعمل الفعلي. يؤكد الإسلام بشدة على الصدقة والزكاة ومساعدة الأيتام ودعم الفقراء، حيث أن هذه وسائل لتخفيف المعاناة في المجتمع. لذلك، فإن جزءًا من الإجابة على السؤال يكمن في الواقع في واجبنا: ماذا يمكننا أن نفعل من أجل هؤلاء الأطفال؟ أخيرًا، يجب أن نتذكر أن المنظور القرآني يعتبر هذه الحياة الدنيا مؤقتة وعابرة، بينما الآخرة أبدية ومكان الجزاء أو العقاب النهائي. إن صعوبات ومشقات الدنيا لا تذكر مقارنة بأبدية الآخرة. في الآخرة، سيتصرف الله بعدل كامل، ولن يُغفل عن أي معاناة تحملها أحد، مهما كانت صغيرة، ولا عن أي عمل صالح قام به. يمنح هذا المنظور البشرية الأمل في أنه حتى لو لم يتم العثور على إجابة كاملة ومرضية لـ "لماذا" المعاناة في هذا العالم، فإن العدل الإلهي سيتحقق في الآخرة، وكل مشقة تحملت بصبر ستجلب أجرًا عظيمًا. في الختام، لا ينسب القرآن الكريم معاناة الأطفال مباشرة إلى خطاياهم الشخصية أو العقاب الإلهي، لأنهم أبرياء. بل يفسرها ضمن إطار أوسع من الحكمة الإلهية، واختبارات الحياة الدنيا، وعواقب الأفعال البشرية. يمكن أن تكون معاناتهم اختبارًا لأنفسهم (مصحوبًا بجزاء عظيم في الآخرة)، ولوالديهم، وللمجتمع لإظهار الرحمة والمسؤولية. علاوة على ذلك، فإن جزءًا كبيرًا من هذه المعاناة ناتج عن الظلم والخيارات البشرية الخاطئة، والتي تقع على عاتقنا مسؤولية السعي لتصحيحها. لا يبرر هذا المنظور المعاناة فحسب، بل هو دعوة إلى الصبر والإيمان والعمل العملي لتخفيف الألم والمعاناة في العالم، والأمل في عدل الله المطلق في الآخرة.
يُحكى أن رجلاً ضل طريقه في الصحراء وكاد يهلك من العطش والجوع. في تلك الحال اليائسة، دعا الله وطلب منه النجاة. وفجأة رأى عين ماء فشرب منها واستعاد قواه. ثم لاحظ أنه بجانب العين شجرة ذات ثمار حلوة لم ير مثلها قط. شكر الرجل الله وتعجب من هذا الفضل العظيم. وقال لنفسه: "لو لم أضل طريقي وأتحمل كل هذه المعاناة، لما وصلت أبدًا إلى هذه العين وهذه الثمار الحلوة، ولما اكتشفت هذه الحكمة الخفية." هذه القصة، وإن كانت بسيطة، تحكي أن الألم والصعوبة أحيانًا تكون بابًا إلى نعم وكنوز ما كنا لنصل إليها في الرخاء، وأن الحكمة الإلهية الخفية تكمن في كل حدث.