تجاهل بعض الناس للخير ينبع من قسوة القلب، واتباع الهوى، وحب الدنيا، والغفلة، وكلها تعود، من منظور القرآن، إلى اختيارات خاطئة والابتعاد عن ذكر الله.
القرآن الكريم، بصفته كلام الله ودليل البشرية الشامل، يتناول أبعادًا مختلفة لوجود الإنسان وحالاته الروحية. إن لا مبالاة بعض الناس تجاه الخير هي ظاهرة معقدة لها جذور عميقة في طبيعة الإنسان وتفاعله مع بيئته والقدر الإلهي. يوضح لنا القرآن بلطف وعمق لماذا قد تصبح قلوب بعض الأفراد غير حساسة لنداء الفطرة للخير والبر، وكيف يمكن أن تلقي هذه اللامبالاة بظلالها تدريجياً على حياة الفرد. هذه المسألة لا تتعلق بالجانب الفردي فحسب، بل تمتد إلى الأبعاد الاجتماعية والروحية أيضاً، وفهمها يفتح الباب أمام معرفة الذات والإصلاح. أحد أهم الأسباب التي يشير إليها القرآن هو "قساوة القلب". قلب الإنسان هو مركز الإدراك والشعور والإيمان، وإذا فقد هذا المركز رقته، فلن يكون قادراً على استقبال نور الهداية والتأثر بالخيرات. يشير القرآن في آيات عديدة إلى هذه الحالة. على سبيل المثال، في سورة الزمر، الآية 22، يقول تعالى: "أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ"؛ أي: "أفمن وسع الله صدره للإسلام فاهتدى، فهو على بصيرة وهدى من ربه، كمن قسا قلبه؟! فالخزي والهلاك للذين قست قلوبهم عن قبول ذكر الله وتدبر آياته؛ أولئك في ضلال بيّن عن طريق الحق." توضح هذه الآية بوضوح أن الابتعاد عن ذكر الله والغفلة يمكن أن يؤدي إلى قساوة القلب. هذه القساوة تشبه الصدأ الذي يتراكم على مرآة القلب، ويمنعها من عكس الحقائق وإدراك جمال الخير. عندما يقسو القلب، فإنه لا يتأثر برؤية آلام الآخرين، ولا يستمتع بفعل الخير، ولا يستفيد من النصيحة والإرشاد. هذه الظاهرة هي نتيجة لاختيارات الإنسان المتكررة في رفض الحقيقة واتباع الهوى. سبب آخر هو "اتباع الهوى ووساوس الشيطان". الإنسان بطبيعته يميل إلى الخير، ولكن الشياطين من الجن والإنس يسعون باستمرار لإغوائه عن الطريق المستقيم وتجميل الشر في نظره. يشير القرآن مراراً إلى دور الشيطان في خداع البشر. في سورة الكهف، الآية 28، يقول تعالى: "وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا"؛ أي: "ولا تطع يا محمد من أغفلنا قلبه عن ذكرنا وعبادتنا وطاعتنا، وتابع هواه وما تشتهيه نفسه، وكان أمره في أعماله وجميع شأنه تجاوزًا للحدود بتضييعه وهلاكه." توضح هذه الآية أن الغفلة عن ذكر الله تمهد الطريق لاتباع الهوى، والهوى يقود الإنسان إلى تقديم الملذات الزائلة والمصالح الشخصية على كل خير وبر. عندما يعمل الإنسان باستمرار وفقاً لرغباته الأنانية، يتضاءل تدريجياً شعوره بالمسؤولية وميله إلى الخير، وبدلاً من الاهتمام باحتياجات الآخرين، يركز فقط على إرضاء رغباته الخاصة. والشيطان بدوره يجعل هذا المسار أكثر جاذبية للإنسان ويجمل قبح الذنب واللامبالاة في عينه. كذلك، "حب الدنيا" أو التعلق الشديد بالحياة الدنيا ونسيان الآخرة، هو عامل مهم في اللامبالاة تجاه الخير. عندما يخصص الإنسان كل جهده وهمه لجمع المال أو اكتساب الشهرة أو الوصول إلى المناصب الدنيوية، فإنه لا يجد فرصة للتأمل في القيم الأخلاقية والروحية والاهتمام بالآخرين. في سورة الحديد، الآية 20، يصف القرآن الحياة الدنيا على النحو التالي: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ"؛ أي: "اعلموا أيها الناس أن الحياة الدنيا لعب ولهو يتشاغل به الأغنياء، وزينة تتجملون بها، وتفاخر بينكم بالجاه والمال، وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أنبت زرعًا فأعجب زراعه الكفار، ثم يجف الزرع فيراه الناظر أصفر، ثم يتفتت ويصبح حطامًا متكسرًا، وهذا مثل ضربه الله للحياة الدنيا، في أن لها ابتداء، ثم مصير إلى فناء. وفي الآخرة عذاب شديد للكفار الذين لا يبالون بما فيها من الحساب، ومغفرة من الله ورضوان للمؤمنين، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور يغتر به من لا عقل له." توضح هذه الآية بوضوح أن التعلق المفرط ببريق الدنيا يلهي الإنسان عن الهدف الرئيسي من خلقه ويقوده نحو الغفلة واللامبالاة. فالشخص الذي لا يفكر إلا في مصالحه الشخصية والمادية، يمكن أن يصبح بسهولة غير مبالٍ بمشاكل المجتمع، والفقر، ومعاناة الآخرين. كما أن "الجهل وعدم الوعي" يمكن أن يلعب دوراً في هذه اللامبالاة. قد يكون بعض الناس غير راغبين في فعل الخير بسبب نقص المعرفة بالنتائج والبركات الدنيوية والأخروية للخير، أو عدم معرفتهم بطرق القيام به. يشير القرآن مراراً إلى أهمية العلم والتفكر في آيات الله وعلامات الخلق حتى يكتسب الإنسان المعرفة ويدرك الطريق الصحيح. أولئك الذين لا يسعون لتحصيل العلم والبصيرة قد يغفلون عن الخير والبر بسبب جهلهم بقيمته. في الختام، يمكن أن تكون هذه اللامبالاة ناتجة عن "عدم فهم المسؤولية الفردية والجماعية". يؤكد القرآن أن كل إنسان مسؤول عن أفعاله وعن مجتمعه. فاللامبالاة تجاه الخير هي في الواقع تجاهل لهذه المسؤوليات. لقد أعطى الله الإنسان الإرادة والاختيار لاختيار طريقه وتحمل مسؤولية اختياراته. وكلما ابتعد الإنسان عن طريق الهداية وتجاهل نداء فطرته، زادت لامبالاته تجاه الخير. لكن القرآن يفتح دائماً باب التوبة والعودة، ويشجع الإنسان على إحياء قلبه بذكر الله، وتزكية النفس، والسعي لعمل الخيرات، ليتخلص من اللامبالاة. هذا المسار يتطلب معرفة الذات، والمراقبة، والتوكل على الله حتى يتمكن الإنسان من إضاءة مصباح فطرته مرة أخرى ويصبح حساساً وفعالاً تجاه الخير والبر.
يروى أنه في الأزمنة الغابرة، كان هناك تاجر ثري يعيش في مدينة، وكان كل همه وشغله التجارة وتكديس الثروة. كان منغمساً في عمله لدرجة أنه قلما كان يلتفت إلى محيطه. ذات يوم، مر الشاعر السعدي الفصيح بتلك الديار. رأى التاجر في السوق وهو يعد دنانيره الذهبية، بينما كان رجل فقير يجلس في زاوية وينظر إليه بحسرة. اقترب السعدي بلطف من التاجر وقال: 'أيها الرجل ذو النية الطيبة (في الظاهر)! هل تعلم أن فعل الخير والاهتمام بقلوب الناس في هذه الدنيا أثمن من آلاف الدنانير؟' هز التاجر رأسه بلامبالاة وقال: 'نحن مشغولون بأعمالنا وليس لدينا وقت لمثل هذه الأحاديث.' ابتسم السعدي وقال: 'يا للأسف، بعض القلوب تتعلق بالدنيا لدرجة أنها لا تسمع نداء الخير والمحبة. وكما أن الماء إذا ابتعد عن المجرى، سيطر عليه الجفاف ولم ينمُ نبات.' بقي التاجر غافلاً عن كلمات السعدي واستمر في عمله. ولكن الأيام دارت، وحلت عاصفة وبلاء على تجارته، وفقد كل شيء. حينها تذكر كلمات السعدي وندم لأنه، في أوج قدرته، لم يمد يد العون ولم يسعد قلوب المحتاجين. لقد أدرك أن اللامبالاة لا تفقر الروح فحسب، بل أحياناً يرد القدر عليها. لذا، من الأفضل، مادام القلب رقيقاً، أن نزرع بذور الخير ونجني ثمارها في الدنيا والآخرة.