لماذا ينجح بعض الأفراد رغم ارتكابهم ذنوبًا كثيرة؟

قد يكون النجاح الظاهري للعصاة "استدراجًا" إلهيًا واختبارًا يقودهم إلى مزيد من الغفلة، لأن القيمة الحقيقية ليست في الحياة الدنيا بل في الفوز الأخروي ورضا الله.

إجابة القرآن

لماذا ينجح بعض الأفراد رغم ارتكابهم ذنوبًا كثيرة؟

السؤال الذي طرحته هو أحد أعمق التساؤلات وأكثرها تكرارًا في تاريخ البشرية: ملاحظة أفراد يبدو أنهم غارقون في الذنوب والمعاصي، ومع ذلك يتمتعون بالرفاهية والنجاحات الدنيوية، بينما يعاني بعض الصالحين من المشقة والمعاناة. قد يثير هذا الأمر تساؤلات في ذهن أي إنسان حول العدالة الإلهية وحكمة الله. لكن القرآن الكريم، بصفته كلام الله الهادي، يجيب على هذا السؤال ببصيرة وعمق، ويوضح أبعاده المختلفة حتى لا يضل المؤمنون أو ييأسوا. أولاً، مفهوم "الاستدراج": من أهم المفاهيم التي يستخدمها القرآن لتفسير هذه الظاهرة هو مفهوم "الاستدراج". الاستدراج يعني أن الله تعالى يجذب المذنبين والمتجاوزين تدريجيًا وخطوة بخطوة نحو الهلاك، بطريقة لا يدركونها هم أنفسهم. هذا التدرج في العذاب والهلاك يمكن أن يأتي في شكل منح النعم الدنيوية والنجاحات الظاهرية. بعبارة أخرى، يمنح الله العصاة مهلة، بل ويبدو أنه يمنحهم المزيد من النعم والرفاهية ليزدادوا غرقًا في ذنوبهم ويغفلوا عن العودة إلى طريق الحق. هذه النعم ليست مكافأة على أعمال صالحة، بل هي جزء من الاختبار أو علامة على شدة الغضب الإلهي الذي سيؤدي في النهاية إلى عذاب شديد وحتمي. يقول القرآن الكريم في سورة الأعراف، الآية 182: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾، أي: «والذين كذّبوا بآياتنا فسوف نجرّهم إلى الهلاك شيئًا فشيئًا من حيث لا يعلمون، بأن نُوَالِي عليهم النعم، فيظنوا أننا راضون عنهم». هذه الآية توضح بجلاء أن النجاحات الظاهرية لبعض المذنبين ليست دليلاً على صحة أعمالهم، بل هي علامة على الاستدراج ومقدمة لسقوط أكبر. وفي سورة القلم، الآية 44، ورد أيضًا: ﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾، أي: «فاتركني أيها الرسول أنا وهؤلاء الذين يُكَذِّبون بهذا القرآن، وسوف نُهلكهم شيئًا فشيئًا من حيث لا يُحِسّون به». هذه الآيات تحذرنا من الانخداع بالنجاحات الظاهرية للأشرار والظن بأن طريقهم صحيح. ثانياً، الطبيعة المؤقتة والخادعة للحياة الدنيا: يؤكد القرآن الكريم مرارًا على الطبيعة المؤقتة والخادعة للحياة الدنيا. فالنجاحات الدنيوية، مهما كانت عظيمة ومبهرة، لا قيمة لها وتزول بسرعة مقارنة بالجزاءات والعقوبات الأخروية. الدنيا هي ساحة اختبار للإنسان، وما يُكتسب فيها هو مجرد وسيلة للعيش ومنصة لتقييم الأعمال. الثروة، والسلطة، والصحة، والشهرة، كلها زينة الدنيا التي يمكن أن تكون وسيلة للقرب من الله، أو أداة للطغيان والضلال. في سورة الكهف، الآيات 45-46، يشبه القرآن الحياة الدنيا بالماء الذي يُنزل من السماء، فيختلط به نبات الأرض فيصبح خضرًا، ثم يهيج فيصير حطامًا تذروه الرياح. ثم يقول: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾، أي: «المال والأولاد زينة الحياة الدنيا يُتجمّل بها، والأعمال الصالحة التي يبقى ثوابها كالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، خيرٌ عند ربك ثوابًا وأفضل أملًا من زينة الحياة الدنيا». هذه الآية تظهر بوضوح أن معيار التقييم في المنظور الإلهي ليس النجاحات المادية، بل هي الأعمال الصالحة التي تبقى للإنسان في الآخرة. كذلك في سورة الحديد، الآية 20، نقرأ: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ...﴾، أي: «اعلموا -أيها الناس- أنما الحياة الدنيا لعبٌ يلهو به أبدانكم، ولهوٌ تلهو به قلوبكم، وزينةٌ تتزينون بها، وتفاخرٌ بينكم، وتكاثر في الأموال والأولاد». هذه الآية تعبر بجمال عن عدم اعتبار الدنيا أمام الآخرة، وتعلمنا ألا نتعلق بمظاهر الدنيا. ثالثاً، صبر الله وحلمه وتأخير العقوبة: الله تعالى هو أشد الصابرين وأعظم الحليمين. لا يعاقب العصاة فورًا، بل يمنحهم مهلة لعلهم يتوبون ويعودون إلى الطريق المستقيم. هذه المهلة بحد ذاتها هي من رحمة الله الواسعة. أحيانًا تكون النجاحات الدنيوية التي يحصل عليها العصاة جزءًا من هذه المهلة والاختبار، ليرى الله هل يستيقظون أم لا. هذا لا يعني أن الله غافل عن ذنوبهم، بل إن العدالة الإلهية ستتحقق في وقتها ومكانها المناسبين. في سورة فاطر، الآية 45، جاء: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى...﴾، أي: «ولو يعاقب الله الناس بما كسبوا من الذنوب، لم يترك على ظهر الأرض دابة تمشي، ولكنه يؤخر عقابهم إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة». هذه الآية تبين أنه لو أراد الله أن يعاقب فورًا على الذنوب، لما بقي كائن حي، لكن حكمته تقتضي إعطاء المهلة. رابعاً، النجاح الحقيقي هو في الآخرة لا في الدنيا: من منظور القرآن، النجاح الحقيقي والفوز الأبدي يكمن في رضا الله والفوز بالجنة في الدار الآخرة، وليس في جمع الثروات والسلطة في الدنيا. قد يصل الفرد إلى قمة النجاحات المادية في هذه الدنيا، ولكن إذا كانت هذه النجاحات تبعده عن الله وتؤدي به إلى الذنوب والمعاصي، فإنه في الواقع هو الخاسر الحقيقي وغير الناجح. وحده الفائز هو من يُزحزح عن النار ويدخل الجنة. في سورة آل عمران، الآية 185، نقرأ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، أي: «كل نفس ذائقة الموت، وما تُعطَون جزاء أعمالكم كاملًا إلا يوم القيامة. فمن أُبعد عن النار وأُدخل الجنة فقد ظفر بما يُتَمَنَّى، وما الحياة الدنيا وما فيها من زينة إلا متاع زائل، يخدع من يتعلق به». هذه الآية توضح صراحة معيار الفوز والنجاح وتذكرنا بألا ننخدع بظواهر الدنيا. في الختام، لا ينبغي لملاحظة النجاحات الظاهرية للعصاة أن تضعف إيمان المؤمنين. بل يجب أن تكون بمثابة تذكير للتأمل أعمق في حكم الله والفرق بين النجاح الحقيقي والنجاح الظاهري. هذه الظواهر هي جزء من نظام الاختبار والابتلاء في الدنيا، والهدف الأساسي لله من خلق الإنسان هو وصوله إلى الكمال والقرب الإلهي، والذي يتحقق بالأعمال الصالحة والابتعاد عن الذنوب، وليس بجمع متاع الدنيا. لذلك، يجب على المؤمنين أن يفكروا دائمًا في الهدف النهائي للحياة، وهو رضا الله وتحقيق السعادة الأخروية، وأن يحذروا من خداع المظاهر الدنيوية. هذا المنظور للحياة يمنح الإنسان الطمأنينة ويبقيه على الطريق الصحيح، حتى لو واجه صعوبات ظاهرة.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

في بستان الحياة، حيث يجد كل نفس مصيرها، كان هناك تاجر ثري يُدعى "كامران" ذات يوم. كلما ازداد ثراؤه، ازداد غروره وتكبره، وابتعد عن الصراط المستقيم، لكن ثروته استمرت في الزيادة. كان الناس يتساءلون بتعجب: "كيف يكون ناجحًا هكذا، وهو لا يبالي بحقوق الناس؟" ذات يوم، مر درويش مسنّ، خبير في الحِكم الإلهية، ورأى حال كامران. ابتسم بلطف وقال بودّ: "لا تنخدعوا ببريق الذهب وزينة الدنيا! فالسفينة التي تطفو على الماء، قد تمضي فوق الأمواج لبعض الوقت، ولكن إذا ثقلت حمولتها بالذنوب والمال الحرام، فإن غرقها سيكون أشد رعبًا. الحساب الحقيقي ليس في خزائن الدنيا، بل في السماوات، وهناك كل فعل، ظاهر وخفي، سيجد جزاءه العادل أو عقابه، سواء كان قريبًا أم بعيدًا." وبالفعل، هكذا حدث. ثروة كامران، التي بنيت على الخداع، بدأت تتهاوى شيئًا فشيئًا. انكشفت خيانته، وتفرقت أمواله، وفارقه السلام. حينها، ترددت كلمات الدرويش في الأسماع: أن النجاحات الظاهرية كانت مجرد سراب، وأن الرخاء الدائم ينبع من قلب طاهر وسلوك قويم، لا من الإنجازات الدنيوية الزائلة.

الأسئلة ذات الصلة