يتباعد البشر بسبب ضعف الإيمان، واتباع وساوس الشيطان كالغيبة وسوء الظن، وحب الدنيا والمنافسة المادية، ونقص التسامح والصبر. والقرآن يقدم الحل بالعودة إلى التقوى والأخلاق الحميدة والحفاظ على الروابط الاجتماعية.
ظاهرة تباعد البشر عن بعضهم البعض هي قضية معقدة تتجذر بعمق في الطبيعة البشرية، والاختيارات الفردية، والتأثيرات البيئية. القرآن الكريم، كمصدر للهداية الإلهية، يتناول هذه المسألة ببصيرة عميقة، موضحًا العوامل الأساسية التي تؤدي إلى الفرقة والتباعد بين الناس. يمكن أن يحدث هذا التباعد على المستوى الفردي، والأسري، والاجتماعي، وحتى الدولي، مما يؤدي في النهاية إلى قطع الروابط التي يؤكد الله تعالى بقوة على ضرورة المحافظة عليها. إن استقراء هذه القضية من منظور قرآني لا يساعدنا فقط على فهم أفضل لتحديات العلاقات الإنسانية، بل يقدم أيضًا طرقًا لإعادة بناء هذه الروابط وتقويتها. أحد الأسباب الرئيسية للتباعد هو **ضعف الإيمان والغفلة عن ذكر الله**. عندما يصبح قلب الإنسان خاليًا من ذكر ربه، وتضعف علاقته الروحية بالخالق، تحل الأنانية وحب الذات محل العبادة لله. يؤدي هذا الانغماس في الذات إلى ظهور صفات مثل **الكبر والغرور والعجب بالنفس**، والتي تشكل حواجز قوية بين الفرد والآخرين. القرآن الكريم يحذر بوضوح من أن الله لا يحب المتكبرين والمفاخرين. ففي سورة لقمان، الآية 18، نقرأ: «وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ»؛ أي "ولا تمِل وجهك عن الناس تكبرًا وإعجابًا بالنفس، ولا تمشَ في الأرض بفخر واختيال، إن الله لا يحب كل متكبر فخور بنفسه وماله". يرى الشخص المتكبر نفسه متفوقًا على الآخرين، ويتجاهل آراءهم، ويرفض الاعتراف بأخطائه. هذه السلوكيات تحد تدريجيًا من دائرة علاقاته وتدفع الآخرين بعيدًا عنه، حيث لا يرغب أحد في الارتباط بشخص يحتقره أو يقلل من شأنه. علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي ضعف الإيمان إلى اللامبالاة تجاه معاناة الآخرين واحتياجاتهم، وهو عامل مهم أيضًا في تفكك العلاقات الإنسانية. عندما يختفي الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية والتعاطف، لا يبقى سبب للقرب والتضامن. العامل الرئيسي الثاني هو **وساوس الشيطان والسلوكيات الاجتماعية غير المرغوب فيها** التي يستغلها الشيطان لإثارة النزاع والعداوة بين الناس. يذكر القرآن الكريم بوضوح أن أحد أهداف الشيطان الرئيسية هو إحداث العداوة والبغضاء بين المؤمنين. ففي سورة المائدة، الآية 91، يقول الله تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ»؛ على الرغم من أن هذه الآية تشير تحديدًا إلى الخمر والميسر، فإن مبدأها العام (إحداث العداوة والبغضاء) ينطبق على مجالات أخرى أيضًا. يبث الشيطان بذور عدم الثقة والشك في القلوب من خلال ترويج **الغيبة والنميمة وسوء الظن والتجسس**. سورة الحجرات، الآية 12، تحظر هذه السلوكيات المدمرة بجمال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ». تنهى هذه الآية صراحة عن الظن السيء، والتجسس في أمور الآخرين، والغيبة، وتشبه الغيبة بأكل لحم الأخ الميت، مما يثير أقصى درجات الاشمئزاز والنفور. عندما يشك الأفراد في المجتمع ببعضهم البعض، أو يتحدثون من وراء ظهورهم، أو يتدخلون في حياة بعضهم البعض بدون مبرر، تسود أجواء عدم الثقة. الثقة هي عمود أي علاقة، وعندما تتآكل، يتباعد الناس بشكل طبيعي لحماية أنفسهم من الأذى والأحكام الخاطئة. الغضب والضغينة، والتي غالبًا ما تكون نتيجة لهذه سوء الفهم والاتهامات الباطلة، تسمم العلاقات وتؤدي إلى الانفصال. العامل الثالث المهم هو **حب الدنيا والمنافسات المادية**. عندما تصبح الحياة الدنيوية هي الهدف الرئيسي والنهائي لوجود الإنسان، تُهمّش القيم الروحية والإنسانية. يمكن أن يؤدي التنافس على كسب المال والمكانة إلى إشعال نار الحسد والبخل والضغينة في القلوب. ففي سورة التكاثر، يشير الله تعالى إلى عواقب هذا التعلق بالدنيا: «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ»؛ أي "أشغلكم التفاخر بكثرة الأموال والأولاد، حتى أتاكم الموت وصرتم إلى القبور". تشير هذه الآية إلى أن الافتتان بتكديس الثروة والتفاخر بالممتلكات يصرف الإنسان عن الهدف الحقيقي من الخلق وعن العلاقات السليمة والهادفة مع الآخرين. عندما تُقاس قيمة الناس بناءً على ممتلكاتهم، يبتعد الفقير عن الغني، ويتجنب الغني مجالسة الفقير. في هذه البيئة التنافسية، يحل الحسد والأنانية محل التعاطف والتعاون، مما يدفع الناس إلى التباعد عن بعضهم البعض بدلاً من السعي إلى القرب والتعاون، حتى لو كان ذلك على حساب إلحاق الضرر بالآخرين. العامل الرابع هو **الظلم والجور ونقض العهود**. العلاقات الإنسانية مبنية على العدل والاحترام المتبادل. عندما يقع ظلم، أو ينتهك حق أحد، أو ينقض عهد، تنهار الثقة وتُلحق جروح عميقة بالعلاقات. يشدد القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا على ضرورة إقامة العدل والوفاء بالعهود. الله لا يرضى الظلم بأي شكل من الأشكال ولا يهدي الظالمين. عندما يشعر فرد أو جماعة بالظلم، فمن الطبيعي أن يبتعدوا عن الظالم. يمكن أن يكون هذا التباعد عاطفيًا في البداية ثم يؤدي إلى انفصال جسدي أو اجتماعي. نقض العهود والوعود يعمل بنفس الطريقة. يحتاج البشر إلى الاطمئنان إلى الوفاء بالعهود والالتزام بالاتفاقيات لمواصلة علاقاتهم. عندما يختفي هذا الاطمئنان، تضعف أسس التواصل، ويميل الأفراد إلى الابتعاد عن بعضهم البعض لمنع الأضرار المحتملة في المستقبل. أخيرًا، يعتبر **نقص الصبر والتسامح والعفو** عاملاً حاسمًا في التباعد. في العلاقات الإنسانية، تنشأ حتمًا خلافات وسوء فهم. القدرة على الصبر في مواجهة الشدائد، والتغاضي عن أخطاء الآخرين، والاستعداد للمغفرة هي مفتاح الحفاظ على العلاقات وتقويتها. يدعو القرآن الكريم المؤمنين إلى الصبر والعفو، ويعتبره من سمات المحسنين. ففي سورة النور، الآية 22، نقرأ: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»؛ أي "وليغفروا لمن أخطأ في حقهم وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ذنوبكم؟ والله غفور لمن تاب من عباده، رحيم بهم". إذا لم يتمكن الناس من التغاضي عن أخطاء بعضهم البعض، فإن كل خطأ صغير يتحول إلى ضغينة، وتراكم هذه الضغائن يجعل العلاقات هشة. عدم القدرة على الاستماع إلى الآراء المخالفة والإصرار على المواقف الشخصية يؤدي أيضًا إلى تفاقم الخلافات وفي النهاية إلى التباعد. باختصار، يرجع القرآن الكريم تباعد البشر عن بعضهم البعض بشكل مباشر إلى الانحراف عن طريق عبادة الله، واتباع وساوس الشيطان، والتعلق المفرط بالدنيا، والظلم والجور، ونقص الفضائل الأخلاقية مثل الصبر والعفو. الحل القرآني للتغلب على هذا التباعد هو العودة إلى التقوى، وتقوية العلاقة بالله، وحفظ اللسان والسلوك في المجتمع، والابتعاد عن الطمع وحب الدنيا، وتزكية النفس بالفضائل الأخلاقية. من خلال العمل بهذه التعاليم، يمكن تقوية الروابط الإنسانية، وبناء مجتمع يقوم على المحبة والعدل والتضامن.
في قديم الزمان، كان يعيش في إحدى المدن رجل ثري ومتكبر، يفتخر بماله ومكانته، ولا يلتفت كثيرًا لأحوال الآخرين. كان يرى نفسه متفوقًا لدرجة أن أقرب أصدقائه سئموا من مجالسته وابتدأوا يبتعدون عنه شيئًا فشيئًا. مجالس هذا الرجل، التي كانت في يوم من الأيام مليئة بالضيوف، أصبحت خاوية، ولم يعد أحد يبوح له بأسراره. في أحد الأيام، مر درويش حكيم كان يعرفه، بجوار بيته. سأله الرجل الثري بغرور: "يا شيخ، أنت الذي تدعي الحكمة، أخبرني لماذا يبتعد الناس عني، مع أني أغنى وأكثر احترامًا من أي شخص آخر؟" أجاب الدرويش بابتسامة لطيفة: "يا عزيزي، يقول بستان سعدي: 'لا تطلب المروءة في الإعجاب بالنفس، ولا الكرامة في الثناء على الذات'. الناس يستفيدون من نور الشمس، لا من بريق القصور المظلمة. غرورك، هو جدار عالٍ يفصل بينك وبين قلوب الناس. إنهم يحبون نور الإنسانية والتواضع، لا ظلال الكبر. فما لم تهدم هذا الجدار وتتعامل مع الناس بلطف وتواضع، ستبقى قلوبهم بعيدة عنك، حتى لو كنت تملك كنوز قارون. قيمة الإنسان تكمن في الجوهر الذي يحمله في صدره، لا في الصناديق التي يمتلكها في بيته." فكر الرجل الثري في هذه الكلمات وأدرك عيبه. وبدأ تدريجيًا في تغيير سلوكه، فتعامل مع الناس بتواضع ولطف، ورأى كيف تقاربت القلوب إليه، وتلونت حياته بلون آخر.