يبالغ بعض الأفراد في العبادات بسبب عدم فهم جوهر الإسلام الصحيح، أو سوء تفسير النصوص الدينية، أو الدوافع الأنانية. يؤكد القرآن على الاعتدال وينهى عن الغلو، فالإسلام دين يسر لا عسر.
في تعاليم القرآن الكريم الغنية والعميقة، يُشدد باستمرار على التوازن والاعتدال في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك العبادات. إن الغلو في العبادات، وهو تجاوز الحدود والضوابط التي وضعها الله سبحانه وتعالى ونبيه الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم)، قد يبدو ظاهريًا علامة على الزهد والتقوى الشديدة، لكنه في الحقيقة قد ينبع من عوامل مختلفة لا تمت بصلة للجذور القرآنية والإسلامية، بل وقد تتناقض مع روح الدين نفسه. أحد أهم الأسباب التي قد تدفع بعض الأفراد إلى الغلو في العبادات هو عدم الفهم الصحيح والشامل لفلسفة الدين وأهدافه. إن الإسلام دين شامل وكامل يغطي جميع أبعاد حياة الإنسان؛ من العلاقات الفردية مع الله إلى المسؤوليات الاجتماعية والأسرية، وحتى الاحتياجات الجسدية والروحية. يذكر القرآن الكريم بوضوح أن الله لا يريد بعباده العسر، بل يريد لهم اليسر والرحمة. ففي سورة البقرة، الآية 185، يقول تعالى: "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ". هذه الآية تبين بوضوح أن الأصل في الدين هو السهولة وعدم فرض المشقة. لذا، فإن أي غلو يؤدي إلى مشقة غير ضرورية أو ضرر بالجسد والروح يتناقض مع هذا المبدأ القرآني. عامل آخر قد ينشأ من التفسيرات الخاطئة والفهم السطحي للنصوص الدينية. ففي بعض الأحيان، يتمسك الأفراد ببعض المظاهر الخارجية للعبادات دون تعمق ودون استشارة أهل العلم والمعرفة، ويظنون أنهم كلما عبدوا أكثر وأشقوا على أنفسهم، اقتربوا من الله أكثر، بينما جودة العبادة وإخلاصها أهم بكثير من كميتها ومشقتها. ينصحنا القرآن الكريم بألا نبالغ في ديننا وألا نخرج عن حد الاعتدال. ففي سورة النساء، الآية 171، يخاطب أهل الكتاب قائلاً: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ". وعلى الرغم من أن هذه الآية موجهة مباشرة إلى أهل الكتاب، إلا أنها تعبر عن مبدأ عام يحث على تجنب الغلو والإفراط في أي دين أو عقيدة. يمكن أن يشمل هذا الغلو زيادة التكاليف الدينية من تلقاء النفس، أو تحريم ما أحله الله، أو الإفراط في الرياضات البدنية التي لم يأمر بها الله. إضافة إلى ذلك، قد ينبع الغلو في العبادات أحيانًا من دوافع نفسية مثل الرياء، أو التظاهر، أو الرغبة في اكتساب مكانة اجتماعية. قد يسعى الفرد من خلال أداء العبادات الشاقة والمتعبة إلى إظهار نفسه أفضل من الآخرين، ولينال شهرة بالزهد والتقوى بين الناس. وفي الوقت نفسه، ينهى القرآن بشدة عن الرياء والتظاهر في العبادات، ويؤكد أن العبادات يجب أن تؤدى بإخلاص ولرضا الله وحده. الإخلاص هو جوهر العبادة الأساسي، وأي عمل لا يتضمن الإخلاص، حتى لو بدا كبيراً وصعباً، فهو لا قيمة له عند الله. سورة الماعون تذم الذين يصلون بقصد الرياء، وتبين أن الله لا يقبل إلا الأعمال الخالصة. وعلاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي إهمال الأبعاد الأخرى للدين والحياة إلى الغلو في العبادة. إن الإسلام دين حياة، ويشجع الإنسان على الاهتمام بآخرته ودنياه على حد سواء. إن إهمال المسؤوليات الأسرية والاجتماعية والمهنية، وحتى الاحتياجات الجسدية والروحية بحجة زيادة العبادة، ليس أمراً غير مرغوب فيه فحسب، بل يُعد أحيانًا خطيئة. وقد أكد النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) دائمًا على أن "خير الأمور أوسطها"، ونهى عن التطرف. لقد كان هو بنفسه أفضل قدوة في التوازن بين العبادة والحياة الاجتماعية. العبادات في الإسلام تهدف إلى تربية الروح الإنسانية وتساميها وتقوية صلتها بالخالق، ليكون الفرد في حياته اليومية مفيداً، أخلاقياً، ومسؤولاً. إذا أُديت العبادة بطريقة تعزل الفرد عن المجتمع أو تمنعه من أداء واجباته، فإن ذلك يتعارض مع الهدف الأساسي للدين. في الختام، يمكن القول إن الغلو في العبادات هو غالباً نتيجة لعدم الفهم الشامل والمتوازن لتعاليم الإسلام، والتأثر بالتفسيرات الخاطئة، أو الدوافع النفسية، أو الجهل بالحدود والضوابط الشرعية. يكمن حل هذه المشكلة في العودة إلى روح القرآن وسنة النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم)، اللذين يؤكدان أن دين الإسلام هو دين "الوسطية" والاعتدال؛ لا إفراط ولا تفريط. المسلم الحقيقي هو الذي يحقق التوازن بين حقوق الله، وحقوق نفسه، وحقوق أسرته، وحقوق المجتمع، ويتقرب إلى الله بمعرفة وإخلاص. كما نقرأ في سورة البقرة، الآية 143: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ". هذه الآية تبين أن الأمة الإسلامية يجب أن تكون قدوة في الاعتدال والوسطية للبشرية جمعاء، وأن الغلو في العبادة يتناقض مع هذه المكانة الرفيعة. وبالتالي، فإن الفهم الصحيح والعمل بهذه المبادئ القرآنية يمنع الوقوع في فخ الغلو والإفراط في الأمور الدينية، ويمهد الطريق للسعادة الحقيقية والسكينة.
يُروى أنه في الأزمنة الغابرة، كان هناك عابد زاهد غارق في العبادة لدرجة أنه اعتزل الدنيا وأهلها تمامًا. وفي يوم من الأيام، زاره صديق له كان رجلاً حكيماً وعالماً. رآه منشغلاً بالصلاة والذكر لدرجة أنه لم يمنح نفسه فرصة للراحة، وكان يأكل القليل جدًا من الطعام، وأهمل عائلته ومساعدة الناس. فقال له الحكيم بلطف: "يا صديقي، إن طريق القرب من الله ليس فقط في العزلة وكثرة العبادة. فقد كان هناك رجل يسهر الليل كله مصليًا ويصوم النهار كله. وفي يوم من الأيام سئل: لماذا تقسو على نفسك هكذا؟ فقال: أريد أن أتقرب إلى الله. فقال له رجل حكيم كبير: أبواب رحمة الله مفتوحة من كل الجهات، وهو يحب عباده ألا يهملوا حياتهم. العبادة الحقيقية هي التي يكون فيها إخلاص وتوازن بين حق الله وحق الخلق وحق النفس. فإذا أهملت واجباتك الأخرى بالإفراط في العبادة، فكأنك تطرق بابًا واحدًا فقط، بينما الله ينظر إلى عباده من جميع الأبواب." ففهم العابد هذه الكلمات الحكيمة، وأدرك أن الاعتدال هو مفتاح الكمال، وأن العبادة الحقيقية هي خدمة تشمل جميع جوانب الحياة.