إن عدم تطابق الصلاة مع السلوك الحسن غالبًا ما ينبع من نقص الإخلاص، والفهم غير الكافي لفلسفة الصلاة الشاملة، وفصلها عن الحياة اليومية. الصلاة الحقيقية، المؤداة بحضور قلب وخشوع، تنهى الفرد عن الفواحش وتوجهه نحو الأخلاق الحسنة، كما يؤكد القرآن أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
سؤال عميق وهام يتردد في أذهان الكثيرين، وقد يؤدي أحيانًا إلى شبهة، هو: لماذا يلاحظ أحيانًا أن بعض الأفراد الذين يبدون ملتزمين بالصلاة، يظهرون ضعفاً في سلوكهم وأخلاقهم تجاه الآخرين، بل وقد يرتكبون أفعالاً تتنافى مع المبادئ الأخلاقية والإنسانية؟ هذا السؤال يستدعي تحليلاً أعمق لمفهوم الصلاة والعبادة في الإسلام. من منظور القرآن الكريم والتعاليم الإسلامية، الصلاة ليست مجرد عمل عبادي شكلي أو مجموعة من الحركات الجسدية والأذكار اللسانية؛ بل هي ركن أساسي وعمود لبناء شخصية متكاملة وحياة قائمة على الأخلاق. الهدف الرئيسي من الصلاة، كما ورد صراحة في سورة العنكبوت، الآية 45: «…وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلِذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ»، هو أن تمنع الإنسان من كل قبيح ومنكر. هذه الآية الكريمة تبين أن الصلاة أداة قوية لتربية النفس، تقوية الإرادة، وإيجاد التقوى في قلب الإنسان (التقوى: خشية الله التي تدفع إلى اجتناب المحارم والقيام بالطاعات). الصلاة التي تقام بحضور قلب، وتدبر في المعاني، وإخلاص في النية، لا شك أنها ستثمر ثماراً طيبة في سلوك الفرد. هذه الصلاة، تذكر الإنسان بالله وتجعله يراقب أعماله وأقواله في كل لحظة من حياته، سواء في السر أو العلن. لذا، إذا لوحظ أن شخصًا يصلي ولكن سلوكه غير مستقيم، فإن الخلل ليس في الصلاة نفسها، بل في جودتها وعمق إقامتها. أحد الأسباب الرئيسية لهذا التنافر هو غياب الإخلاص وتلوث العمل العبادي بالرياء والتظاهر. يذم القرآن الكريم بشدة الرياء في العبادات ويعتبره من صفات المنافقين. ففي سورة الماعون، يوبخ الله تعالى بشدة أولئك الذين يصلون ولكنهم غافلون عن صلاتهم أو يصلون من أجل أن يراهم الناس: «فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ». توضح هذه الآيات أن الصلاة دون انتباه قلبي، ودون نية خالصة، وبهدف غير إلهي (مثل كسب المكانة الاجتماعية أو مدح الناس)، لا تحمل قيمة روحية فحسب، بل يمكن أن تكون سبباً في المقت والعقاب الإلهي. هذه الصلاة، وإن أقيمت ظاهريًا، لم تتغلغل في عمق نفس الفرد ولم تؤدِ إلى تزكيته وتحوله الداخلي. في الواقع، لقد تحولت هذه الصلاة إلى مجرد عادة فقدت روحها وجوهرها الأصيل. سبب آخر لهذه الظاهرة هو عدم الفهم العميق للفلسفة الشاملة للإسلام وفصل العبادات عن الحياة اليومية. الإسلام دين شامل وكامل، يشمل جميع جوانب حياة الإنسان، من العبادات الفردية إلى العلاقات الاجتماعية والأخلاق. الصلاة، كعمود للدين، يجب أن تكون جسرًا بين الفرد والخالق، ويجب أن تتجلى هذه الصلة في جميع أبعاد حياته. قد يرى بعض الأفراد الصلاة مجرد واجب جاف بلا روح يجب أداؤه في أوقات معينة، وبعد ذلك، لا يكون له أي صلة بالجوانب الأخرى من حياتهم. هذا المنظور السطحي يمنع الصلاة من أن تصبح عاملاً لتربية التقوى وإصلاح السلوك. التقوى، وهي من أهم أهداف العبادات، تعني الورع والامتناع عن الذنوب بالاعتماد على الوعي الدائم بوجود الله. الصلاة التي لا تقوي التقوى في الإنسان، هي كشجرة لا تثمر. يذكر القرآن الكريم دائمًا الإيمان والعمل الصالح جنبًا إلى جنب، ويؤكد أن الإيمان الحقيقي لا يثمر بدون العمل الصالح، وأن العمل الصالح ينبع من الإيمان الصادق. الصلاة كرمز للإيمان، إذا أقيمت بشكل صحيح، يجب أن تنعكس في الأعمال الحسنة، والقول الحسن، والنية الصادقة للفرد. إذا كان شخص يصلي ولكنه يكذب، يغتاب، يظلم، أو ينتهك حقوق الآخرين، فهذا يدل على أن صلاته لم تصل إلى الدرجة التي تمنعه من هذه المنكرات. ربما لا يحرم هؤلاء الأفراد من الثواب الأخروي للصلاة، لكنهم لم يلمسوا تأثيرها التربوي والرادع في حياتهم الدنيا. لقد أقاموا فجوة بين العبادة والأخلاق، بينما في التعاليم الإسلامية هما لا ينفصلان. في الختام، يجب الإشارة أيضًا إلى أن النمو الروحي والأخلاقي عملية تدريجية وتستغرق وقتًا. كل إنسان يتقدم خطوة بخطوة في طريق الكمال وتزكية النفس، وقد يكون في مراحل مختلفة من هذه الرحلة. بعض الأفراد قد بدأوا حديثًا في الدين أو الصلاة ويكونون في المراحل الأولى من إصلاح النفس؛ في هذه الحالة، فإن توقع تحول كامل وفوري في سلوكهم غير واقعي. المهم هو أن تكون هناك نية للإصلاح والحركة نحو الكمال، وأن تُستخدم الصلاة كأداة لهذا النمو. يؤكد الإسلام على الصبر، المثابرة، والجهد المستمر لتحسين الأخلاق. إذن، هذه الظاهرة (صلاة الشخص وسوء خلقه) لا تدل على نقص في فريضة الصلاة نفسها، بل تشير إلى الحاجة إلى تعميق أكبر في جودة أدائها وضرورة مصاحبتها بالإخلاص، حضور القلب، والفهم الصحيح للفلسفة الشاملة للعبادات. الصلاة الحقيقية هي عامل قوي لتربية الإنسان وتزكيته وبناء إنسان كامل، تكون علاقته بالله حسنة وسلوكه مع خلق الله حسنًا أيضًا. إذا لم تتحقق هذه الأهداف، فيجب البحث عن السبب في نية الفرد وجودة وعمق علاقته بالصلاة، وليس في هذه الفريضة الإلهية نفسها. وهذا بحد ذاته تنبيه لكل مسلم ليراجع عباداته ويرى هل صلاته قد قربته إلى الله تعالى وأبعدته عن الذنوب أم لا؛ وهل تجلت هذه الصلة بالخالق في أخلاقه وتعامله مع المخلوق أم لا. في الحقيقة، أي صلاة لا تقرب الإنسان من العدل، اللطف، الصدق والإحسان، تحتاج إلى مراجعة جادة، لأن جوهر الصلاة الحقيقية هو بناء إنسان أفضل.
يُروى أنه في الأزمنة الغابرة، كان هناك عابد يذهب إلى المسجد كل صباح ومساء، ويؤدي صلوات طويلة ومهيبة. وكان الناس يثنون عليه لزهده وتقواه، ويطلبون منه الدعاء. لكن هذا العابد نفسه كان يتحدث بخشونة وغلظة في السوق، ويغش في البيع، ولا يعامل جيرانه بلطف. ذات يوم، رآه حكيم فطن يصرخ بغضب على فقير بعد صلاة طويلة. التفت الحكيم إلى العابد وقال: «يا صاحبي، أراك تسجد عند عتبة المحبوب، وتطلب الابتعاد عن الدنيا، ولكن كيف لنفس لسانك الذي يذكر الحق أن يجرح قلوب عباده؟ إن صلاة لا تمنعك من إيذاء الخلق، فكأنها مجرد هيئة بلا روح وحركة بلا معنى. تذكر أن بيت المحبوب في قلوب الناس، ومن كسر قلب عبد الله فقد أغلق طريقه إلى الحق.» خجل العابد من كلام الحكيم وأدرك أنه على الرغم من جمال شكل عبادته، إلا أن جوهر أفعاله كان قبيحًا. ومنذ ذلك اليوم، سعى جاهداً ليس فقط لأداء صلواته بنية أخلص، بل أيضاً لتحسين أخلاقه لكي تمنعه صلاته حقًا عن المنكر وتقوده إلى المعروف، مظهرًا بذلك ثمرة صلاته في سلوكه.