لماذا يؤدي الإحسان أحيانًا إلى استغلال الآخرين؟

الإحسان أمر قرآني، لكن استغلاله ينبع من ضعف المستغل الأخلاقي وقلة حكمة فاعل الخير. يجب الإحسان بنية خالصة لله، مع التحلي بالحكمة والصبر.

إجابة القرآن

لماذا يؤدي الإحسان أحيانًا إلى استغلال الآخرين؟

في تعاليم القرآن الكريم الغنية والعميقة، يُعد الإحسان والبر والخير من أسمى الفضائل والأعمال التي يتقرب بها الإنسان إلى الله ويُضفي بها معنى على حياته. يحث القرآن المؤمنين مرارًا وتكرارًا على فعل الخير، ومساعدة المحتاجين، والبر بالوالدين، وصلة الأرحام، وتقديم العون لكل من هو في ضائقة. هذه الأوامر ليست مجرد سبيل للسعادة الأخروية، بل تُرسّخ أيضًا أسس مجتمع سليم وإنساني. ولكن، السؤال الذي يتبادر إلى أذهان الكثيرين منا هو: مع كل هذا التأكيد على الخير، لماذا يؤدي فعل الخير أحيانًا، لا إلى الشكر والنتيجة المرجوة، بل إلى توفير الفرصة لبعض الأفراد للاستغلال والطمع؟ يجب البحث عن إجابة هذا السؤال في عدة مستويات من تعاليم القرآن وفهم طبيعة الإنسان. أولًا، إن القرآن الكريم، مع تشجيعه على الإحسان، يتعامل بواقعية مع الطبيعة المزدوجة للإنسان. الإنسان كائن مركب من الخير والشر، من النبل والخسة، وهو دائمًا في مواجهة الاختيار بينهما. ففي حين أن العديد من الناس يتمتعون بفطرة طيبة وشاكرة، قد يلجأ البعض الآخر، تحت تأثير الأهواء النفسية، والطمع، والأنانية، ونقص الإيمان، إلى استغلال الإحسان بدلًا من تقديره. هذه الصفات السلبية ليست متأصلة في فاعل الخير، بل تنبع من ضعف المستغل وأمراضه الروحية. يتحدث القرآن صراحة عن وجود أفراد جاحدين، وناقضين للعهود، وظالمين، وهذا يدل على أن ظاهرة الجحود والاستغلال، وإن كانت غير مرغوبة، إلا أنها مفهومة في سياق الحقائق الإنسانية. الهدف من الإحسان هو التقرب إلى الله، وليس ضمان حسن سلوك الآخرين. فاعل الخير بنية خالصة ينال الأجر الإلهي، حتى لو جحد الآخرون. في الحقيقة، إحسانك له جزاء أخروي، وجحود المستغل سيُحاسب عليه، وهذا هو العدل الإلهي. ثانيًا، إلى جانب التوصية بالإحسان، يدعو الإسلام المؤمنين إلى استخدام الحكمة والبصيرة. فالإحسان لا ينبغي أن يكون مصحوبًا بالسذاجة والجهل. الحكيم هو الذي يميز أين وكيف يطبق الإحسان ليحمي نفسه من الضرر، ولئلا يضيع إحسانه أو يؤدي إلى مزيد من الفساد والهلاك. أحيانًا، العطاء اللامحدود وبدون معرفة، لا يحل مشكلة الفرد فحسب، بل يدفعه أكثر في طريق الكسل والاعتماد على الآخرين. في هذه الحالة، قد يكون إحسانك مدمرًا بدلًا من أن يكون بناءً. الحكمة، بمعنى وضع كل شيء في مكانه الصحيح، تعلمنا أن الإحسان يجب أن يكون مصحوبًا بالتدبر وفهم الظروف. هذا لا يعني عدم المساعدة، بل يعني المساعدة الفعالة والهادفة. على سبيل المثال، مساعدة شخص قادر على العمل ويستغل مساعدتك تختلف عن مساعدة محتاج حقيقي. يؤكد الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم على أهمية الحكمة والبصيرة ويقول: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (البقرة: 269)؛ أي يعطي الحكمة لمن يشاء، ومن أُعطي الحكمة فقد أُعطي خيرًا كثيرًا. هذه الآية تُظهر أن الحكمة نعمة عظيمة تساعد المؤمن على اتخاذ القرارات الصحيحة في الحياة، بما في ذلك أعمال الخير، وتجنب الوقوع في فخ المستغلين. لذا، فإن الإحسان المقترن بالحكمة هو درع واقٍ ضد الجحود والاستغلال. ثالثًا، من منظور القرآن، الهدف الأساسي من فعل الخير هو نيل رضا الله وأداء الواجب الإلهي، وليس توقع المكافأة أو الشكر من البشر. عندما تكون نيتنا خالصة لوجه الله، فإن رد فعل الآخرين (سواء كان شكرًا أو استغلالًا) لا يقلل من قيمة عملنا. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا﴾ (الإنسان: 9)؛ هذه الآية تعبر بجمال عن هذا المبدأ. في مواجهة الجحود أو الاستغلال، على المؤمن أن يتحلى بالصبر ويعلم أن أجره وثوابه محفوظان عند الله. هذا الصبر بحد ذاته نوع من الجهاد النفسي ويزيد من أجره الروحي. الإيمان بهذه الحقيقة يهدئ القلب ويقوي العزيمة لمواصلة طريق الخير. من ناحية أخرى، يجب أن ندرك أن الفرد المستغل في النهاية يضر نفسه. فبفعلته هذه، لا يزيد ذنوبه فحسب، بل يحرم نفسه أيضًا من فرص إقامة علاقات صحية قائمة على الثقة. الله عادل، ولا يخفى عليه أي عمل، سواء كان خيرًا أو شرًا، وفي النهاية سيُجازى كل نفس بما كسبت. هذا اليقين بالعدل الإلهي يريح قلوب أولئك الذين تم استغلال إحسانهم. في الختام، الإحسان فضيلة متأصلة ودائمة لا ينبغي أن تتأثر بالتجارب المريرة للاستغلال. المشكلة ليست في إحسانك، بل في نقص الكمال والأخلاق الإنسانية لدى بعض الآخرين. يحثنا القرآن على الحفاظ على حدودنا الأخلاقية وحدودنا الشخصية والمالية. هذا لا يعني عدم العطاء، بل يعني العطاء بوعي وعلى أساس الحاجة الحقيقية والظروف. يجب ألا ندع التجارب السلبية تُبعدنا عن فضيلة الإحسان أبدًا، ولكن يمكننا جعل أعمالنا الخيرية أكثر فعالية وحماية بإضافة الحكمة والبصيرة إلى أفعالنا. لنتذكر أن قيمة أعمالنا الصالحة تكمن في خالقها، وليس في المخلوق الذي قد يكون جاحدًا. ولذا، فإن مواصلة الإحسان بالحكمة والصبر والتوكل على الله هي سبيل السعادة والطمأنينة، حتى لو كان الطريق مليئًا بمتاعب البشر.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يُروى أن رجلاً ذا سيرة حسنة عاش في مدينة، وكان يمدّ يد المساعدة لكل من يلتقي به، دون أن يتوقع جزاءً على إحسانه. كان كريماً لدرجة أنه كان يتنازل أحيانًا عن حاجاته الخاصة ليُطعم غيره. ولكن في إحدى المرات، حدث أن أحد أولئك الذين استفادوا مراراً من إحسانه، لم يكن شاكراً فحسب، بل كان يعود في كل مرة بمزيد من الطمع، مما وضع الرجل الطيب في ضيق. وفي يوم من الأيام، رآه حكيم عاقل وسأله: "أيها الكريم، كرمك محمود وأجره محفوظ عند ربك، ولكن الحكمة جزء من الفضيلة أيضًا. اسقِ الشجرة التي تثمر، لا الأرض المالحة التي لا تنتج إلا الشوك وتُذهب جهدك سدى." أخذ الرجل الخير نصيحة الحكيم على محمل الجد وأدرك أنه على الرغم من أن الخير فضيلة لا مثيل لها، إلا أن التمييز بين الجاحد والشاكر هو حكمة أيضًا، حتى تسقط بذور الإحسان في مكانها الصحيح ولا تُثمر شجرة الطمع أو تمتد جذورها. لقد تعلّم أن المحبة والإحسان يجب أن يصحبهما عيون بصيرة وقلب واعٍ حتى لا يُستخدما من قبل ذوي النوايا السيئة وسيلة للمطالب الزائدة، وحتى تتلألأ جوهرة الإحسان في موضعها الصحيح.

الأسئلة ذات الصلة