لماذا الإنسان كفور النعمة أحيانًا رغم وجودها؟

يصبح الإنسان كفورًا للنعمة أحيانًا بسبب الغفلة والغرور وحب الدنيا ووساوس الشيطان. ويقدم القرآن الحلول في التفكر في النعم وذكر الله والشكر العملي لينال السكينة وزيادة البركات.

إجابة القرآن

لماذا الإنسان كفور النعمة أحيانًا رغم وجودها؟

كفران النعمة في الإنسان هو خلل عميق الجذور في الطبيعة البشرية، ويمثل أحد أبرز التحديات الأخلاقية والروحية التي تتناولها آيات القرآن الكريم العديدة. فمع أن الله تعالى يغدق على عباده نعمًا لا تُحصى ولا تعد، إلا أنه يُلاحظ أن الكثير من البشر يقابلون هذا الفضل والكرم الإلهي بالجحود وكفران النعم، فلا يشكرون. هذه الظاهرة لا تُبعد الإنسان عن خالقه فحسب، بل تُعرّض سعادته وراحته في الدنيا والآخرة للخطر. القرآن الكريم، بلهجة تحذيرية وتوبيخية أحيانًا، ينتقد هذه السمة في البشر ويسرد أسبابها، لكي يتعرف الإنسان على هذه العوامل ويختار طريق الشكر والرضا الإلهي. جذور كفران النعمة من منظور قرآني: 1. النسيان والغفلة: أحد الأسباب الرئيسية لكفران النعمة هو نسيان الإنسان وغفلته عن مصدر النعم. فعندما يعيش الإنسان في رغد وراحة، يبدأ تدريجيًا في نسيان أن هذه النعم كلها من فضل الله تعالى. قد ينسب هذه النعم إلى جهوده وذكائه فقط، ويقع في الغرور والإعجاب بالنفس. يدعو القرآن الكريم الإنسان مرارًا إلى تذكر النعم الإلهية للتحرر من فخ الغفلة. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك حال الإنسان عندما يقع في شدة أو بلاء، فيتضرع إلى الله بشدة، ولكن بمجرد زوال المشكلة، يعود إلى حالته الأولى وينسى الله. هذا النسيان يمنع الإنسان من إدراك عمق اللطف الإلهي ويدفعه نحو الجحود، لأن عقله ينشغل باللذات العابرة وينسى المصدر الحقيقي لهذه اللذات. هذه الغفلة قد تكون كحجاب كثيف يغطي عين القلب ويمنعه من رؤية الحقائق المحيطة به. 2. الغرور والإعجاب بالنفس: يميل الإنسان بطبيعته إلى التقدير والاعتراف بإنجازاته. وإذا لم يتم التحكم في هذا الميل، فإنه يتحول إلى غرور. فالشخص المغرور يرى نجاحاته، وثروته، وصحته، ومكانته الاجتماعية كلها نتاجًا لقدراته وجهوده الشخصية، متجاهلاً أو مقللاً من دور الله في ذلك. هذا الإعجاب بالنفس هو عائق كبير أمام الشكر، لأن الشكر يستلزم الاعتراف بفضل وكرم الآخر. يذكّر القرآن الكريم مرارًا أن كل ما يمتلكه الإنسان هو من عند الله، وأنه لا توجد قوة في الكون إلا بإذنه. الإنسان المغرور يعتبر نفسه مستقلاً عن خالقه، وهذا الاعتقاد يوقعه في هاوية كفران النعمة. ينسى أن حتى قدرته على السعي والتفكير هي نعمة من الله، وأنه لا يستطيع تحقيق شيء بدون إذنه. 3. حب الدنيا والتعلقات المادية: حب الدنيا المفرط وجمع الثروات والمناصب والملذات الزائلة يُعمي بصيرة الإنسان. عندما يكرّس الإنسان كل همّه للمسائل المادية، ينسى القيم الروحية السامية والاتصال بالخالق. في هذه الحالة، تتحول النعم من وسيلة للتقرب إلى الله إلى هدف بحد ذاتها. الإنسان الطماع مهما كثرت نعمه، فإنه يشعر دائمًا بالنقص، ولذلك لا يستطيع أن يكون شاكرًا لما لديه. هذا الطمع والجشع يدفعانه باستمرار نحو الرغبات الجديدة، ولا يصل أبدًا إلى مرحلة الرضا والقناعة، وبالتالي تُغلق أبواب الشكر أمامه. هذا التعلق الشديد بالدنيا الفانية يؤدي إلى نسيان الإنسان الهدف الأساسي من الحياة وطبيعة النعم الزائلة، وبدلاً من استخدامها بحق، يتجه نحو جمع المزيد والجحود. 4. الجهل ونقص المعرفة: الكثير من البشر، بسبب جهلهم بعظمة الله وقدرته، وعدم معرفتهم الكافية بفلسفة الخلق وهدف الحياة، لا يدركون قيمة النعم. إنهم لا يعلمون أن كل نفس يتنفسونه، وكل نبضة قلب، وكل لحظة راحة، وكل قطرة ماء يشربونها، هي جميعها من فضل الله وكرمه. هذا الجهل وعدم المعرفة يؤديان إلى عدم إدراك الإنسان لأهمية الشكر وعواقب كفران النعمة، فيمرّ عليها بلا مبالاة. يدعو القرآن الكريم الإنسان دائمًا إلى التفكر والتدبر في آيات الله وعلامات قدرة الرب في الخلق، ليزداد معرفته بذلك، ويصل إلى الشكر الحقيقي. فعدم الوعي بالنتائج الروحية للشكر والعواقب الدنيوية والأخروية لكفران النعمة، يشكل عائقاً كبيراً في طريق الإنسان نحو الكمال. 5. وساوس الشيطان: يسعى الشيطان دائمًا إلى إضلال الإنسان عن الصراط المستقيم ودفعه نحو كفران النعمة. فهو يزيّن الدنيا ويقلّل من شأن النعم الأخروية، فيخدع الإنسان ليتجه نحو الجحود بدلاً من الشكر. يلقي الشيطان في قلب الإنسان الشعور بالنقص ويحثه على مقارنة ما لديه بما لدى الآخرين، فيجعله مستاءً مما يملك، ويتحسر بدلاً من الشكر. يحذر القرآن الكريم مرارًا أن الشيطان عدو مبين للإنسان، ويجب الحذر من وسواسه واللجوء إلى الله. فوساوسه تستطيع أن تُدمّر القناعة وتُبقي الإنسان في حالة مستمرة من طلب المزيد وعدم الرضا. عواقب كفران النعمة: لا يؤدي كفران النعمة إلى زوال البركة منها فحسب، بل قد يؤدي أيضًا إلى عذاب إلهي. يقول القرآن الكريم: "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" (إبراهيم، الآية 7). تُظهر هذه الآية بوضوح العواقب الوخيمة لكفران النعمة. البعد عن الله، والشعور بالفراغ، وعدم الرضا الدائم، والاضطراب الروحي هي من العواقب الأخرى لكفران النعمة. فالشخص الكافر بالنعمة لا يصل أبدًا إلى الرضا الداخلي، لأنه دائمًا يبحث عن الأشياء التي لا يمتلكها ولا يستمتع بما لديه، ويقع في دائرة لا نهاية لها من الطمع والحسرة. الحلول القرآنية للشكر: للتصدي لكفران النعمة، يقدم القرآن الكريم حلولًا: الذكر الدائم لله، والتفكر والتدبر في عظمة الخلق ونعمه التي لا تُحصى، والنظر إلى من هو أدنى (لتقدير قيمة ما يملك)، والاستخدام الصحيح للنعم في سبيل رضا الله، والتوبة والاستغفار لتطهير آثار كفران النعمة والعودة إلى طريق الحق. هذه الإجراءات تساعد الإنسان على أن يمتلك قلبًا شاكرًا وروحًا راضية. الخلاصة: كفران النعمة في الإنسان ظاهرة معقدة لها جذور روحية ونفسية وشيطانية. يوضح القرآن الكريم هذه الجذور، ليرشد الإنسان إلى طريق الشكر، فلا يكتفي بزيادة البركات الإلهية عليه فحسب، بل ينعم أيضًا بالسلام والرضا الداخلي، ويسير نحو السعادة الأبدية. الشكر ليس فعلاً لحظيًا، بل هو حالة قلبية وروحية دائمة يجب أن تسري في جميع جوانب حياة الإنسان لتوصله إلى حقيقة العبودية والقرب من الله. هذا الاختيار بين الشكر والكفر، هو الاختبار الذي وضعه الله للإنسان، ويحدد مسار كل فرد. الشكر جسر نحو السعادة والبركة، وكفران النعمة وادٍ يقود إلى الحرمان والندم. لذا، يذكّر القرآن الكريم الإنسان باستمرار أن يكون حذرًا ويقدّر نعم الله لكي تمتلئ حياته بالسلام والوفرة. هذا يدل على الأهمية الكبيرة للشكر في النظام الفكري والتربوي للإسلام، وكونه طريقاً للسعادة الحقيقية والأبدية للإنسان في الدنيا والآخرة. الشكر مفتاح الرضا وبوابة لزيادة النعم.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يُروى أنه كان هناك رجل غني يعيش في قمة النعم والرفاهية. كان يمتلك بستانًا غنّاءً وبيتًا فخمًا وثروة لا تُحصى. لكن وجهه لم يشرق قط بالبهجة والرضا. كان يشكو دائمًا من الزمان ويتذمر قائلاً: "لماذا يملك فلان كذا ولا أملك أنا؟" أو "هذه النعم قليلة مقارنة بما يملكه الآخرون." ذات يوم، كان يجلس على ضفة نهر، يندب تقلبات الدنيا. في تلك الأثناء، وصل رجل فقير منهك، حافي القدمين ويرتدي ثيابًا بالية. كان يعاني من العطش، فلما وصل إلى الماء، شرب منه ملء كفيه بلذة لا توصف، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال بملء فمه: "الحمد لله رب العالمين! يا لها من نعمة عظيمة وعذبة! ليت الآخرين أيضًا يرتوون من هذا الماء العذب." نظر إليه الرجل الغني بدهشة. هذا الفقير لم يكن يمتلك مالاً ولا جاهًا، لكن قلبه كان مفعمًا بالشكر. تأمل الرجل الغني حاله للحظة وشعر بالخجل. أدرك أن كفرانه للنعمة، على الرغم من جميع ما لديه، كان ينبع من قلبه غير القنوع وعينه الطماعة، لا من قلة النعم. وأدرك أن السعادة تكمن في عدّ ما يملك والشكر عليه، لا في التحسر على ما لا يملك. ومنذ ذلك الحين، سعى لتعويد قلبه على الشكر، فكما يقول سعدي: "شكر النعمة يزيدها، وكفر النعمة يزيلها من يدك."

الأسئلة ذات الصلة