الابتعاد عن بعض الناس، إذا كان بهدف حماية الإيمان، وتجنب الفساد، أو حماية الذات والمجتمع، لا يتنافى مع الرحمة؛ بل هو علامة على حكمة أعمق ورحمة. يهدف هذا الفعل إلى الحفاظ على القيم الإلهية والسلامة الروحية، وليس عن حقد أو عدم احترام.
في تعاليم القرآن الكريم الغنية والحكيمة، يحتل مفهوم الرحمة، والشفقة، وحسن الخلق مكانة عالية جدًا. الإسلام دين رحمة، يدعو المؤمنين إلى إظهار اللطف لجميع المخلوقات، حتى أولئك الذين لا يشاركونهم دينهم. ولكن هل هذه الرحمة مطلقة وغير مشروطة؟ وهل في ظروف معينة، يعتبر الابتعاد أو الابتعاد عن بعض الأفراد أو البيئات، متناقضًا مع مبدأ الرحمة؟ إجابة القرآن على هذا السؤال ليست "لا" مطلقة ولا "نعم" مطلقة؛ بل تقدم نهجًا حكيمًا وشاملًا تتشابك فيه الرحمة مع البصيرة والحكمة. إن الابتعاد عن بعض الناس في الإسلام، في حالات معينة، لا يتنافى مع الرحمة فحسب، بل يمكن اعتباره فعلًا من أفعال الرحمة، سواء تجاه الذات أو، في بعض الحالات، تجاه الآخرين. هذا الابتعاد ليس نابعًا من الكراهية أو عدم الاحترام، بل من الحكمة، والحفاظ على الإيمان، وتجنب الفساد. أحد أوضح الأسباب القرآنية لضرورة الابتعاد عن بعض المجالس هو الحفاظ على الإيمان وحماية الذات من التأثيرات السلبية. يحذر القرآن الكريم صراحة المؤمنين من مجالسة الذين ينكرون آيات الله أو يسخرون منها. ففي سورة النساء، الآية 140، نقرأ: «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا». هذه الآية تنص صراحة على أنه إذا سخر من آيات الله في مجلس ما، فلا ينبغي الجلوس فيه، وإلا أصبح المرء مثلهم. هذا الأمر ليس نابعًا من عدم الرحمة، بل من الرحمة والشفقة الإلهية للحفاظ على إيمان العبد وهويته الإيمانية. في الواقع، تتضمن الرحمة الحقيقية حماية الروح والنفس والعقيدة من التلوث والأذى. علاوة على ذلك، في القرآن، تذكر صفات عباد الرحمن الخاصة في سورة الفرقان، الآية 72: «وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا». أي أنهم أولئك الذين لا يشهدون الزور، وإذا مروا باللغو مروا كرامًا. «المرور كرامًا» هنا يمكن أن يعني عدم المشاركة في الكلام الباطل، وتجنب المجالس اللغوية، والحفاظ على كرامة النفس. هذا النوع من الابتعاد يدل على النضج والحكمة والاختيار الواعي للحفاظ على نقاء الروح وتجنب الانخراط في الأمور التي لا قيمة لها. هذا الفعل لا يتنافى مع الرحمة فحسب، بل هو أيضًا حفاظ على الاحترام والقيم الإلهية، والتي هي بحد ذاتها مظاهر للرحمة تجاه الذات وتجاه طريق الهداية. أحيانًا، يعني الابتعاد عدم طاعة الكافرين والمنافقين وتجاهل أذاهم، كما أمر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في سورة الأحزاب، الآية 48: «وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا». هذه العبارة "دع أذاهم" يمكن أن تعني الابتعاد عن مصدر الأذى وعدم الانخراط فيه. هذا الابتعاد هو ابتعاد عن الشر والسوء، وليس ابتعادًا عن الرحمة. فالرحمة الحقيقية، في مواجهة الظلم والجور، لا تعني السلبية والقبول، بل تعني الثبات على الحق والابتعاد عن الباطل، حتى لو استلزم هذا الثبات الابتعاد عن أهل الباطل. هذا الإجراء يعود بالنفع في نهاية المطاف على المجتمع ويعزز العدل والخير، وهما من أسمى مظاهر الرحمة الإلهية. من منظور إسلامي، لا تعني الرحمة الاستسلام لكل أنواع السلوك أو التأثير المدمر. أحيانًا تكمن الرحمة الحقيقية في الحد من التفاعل مع الأفراد الذين قد يضرون بإيمان الفرد أو أخلاقه أو صحته العقلية. هذا نوع من "الرحمة الذكية"؛ رحمة مصحوبة بالبصيرة وحماية الذات والآخرين. على سبيل المثال، إذا كان شخص ما ينشر الطاقة السلبية باستمرار، أو يغتاب، أو يكذب، أو يحاول أن يحرفك عن طريق الحق، فإن الابتعاد عنه لا يعني قسوة. بل يعني اختيارًا واعيًا لبيئة صحية لنموك الروحي والأخلاقي. هذا الفعل، بطريقة ما، يمكن أن يكون شكلاً من أشكال "الحب القاسي" للطرف الآخر؛ لأنه قد يجعله يفكر لماذا يبتعد عنه الآخرون ويدفعه إلى تعديل سلوكه، على الرغم من أن الهدف الأساسي للشخص المبتعد هو الحفاظ على الذات. تؤكد أهمية اختيار الصحبة الصالحة في الإسلام هذه النقطة أيضًا. فالعديد من الروايات والآيات تشدد على ضرورة اختيار الأصدقاء الصالحين وتجنب مجالسة الأشرار. وهذا التركيز يرجع إلى التأثير العميق للرفيق على روح وشخصية الإنسان. فلو كانت الرحمة تعني مصاحبة الجميع على الإطلاق، لما وردت توصية باختيار الأصدقاء. ولذلك، فإن الابتعاد عن ذوي التأثيرات السلبية لا يتوافق مع الرحمة فحسب، بل هو جزء من مسؤولية الفرد تجاه الحفاظ على دينه وأخلاقه، وكذلك مسؤولية اجتماعية للحفاظ على سلامة المجتمع. أخيرًا، يجب ملاحظة أن هذا الابتعاد يجب أن يتم بنية خالصة ومع الحفاظ على المبادئ الأخلاقية الإسلامية؛ دون حقد أو إهانة أو قطع كامل للروابط الإنسانية إلا في الحالات التي يجيزها القرآن والسنة صراحة. الهدف النهائي هو دائمًا تعزيز القيم الإلهية والحفاظ على كرامة الإنسان، سواء كان ذلك لنفسه أو للآخرين.
في گلستان سعدي، يُروى أن أحد الكبراء قال لحكيم: «الصديق السوء مثل الحية، وإن كان ناعم الملمس، فهو سام.» فأجاب الحكيم: «نعم، ولكن الصاحب الصالح مثل العطار، وإن لم يعطك شيئاً، فإن طيب رائحته تصل إليك.» وذات يوم، أصبحت قطعة من الطين معطرة في حمام. فسألوها: «أأنت مسك أم عنبر؟» فأجابت: «كنت مجرد طين، ولكنني جالست وردة عطرة لبعض الوقت، وهكذا اكتسبت رائحتها الطيبة؛ وإلا فأنا مجرد تراب.» هذه القصة الجميلة تعلمنا أن الصحبة والقرب من الناس يؤثران فينا تأثيراً عميقاً. أحيانًا، يكون اختيار الابتعاد عن أولئك الذين تفوح منهم رائحة كريهة من قول أو فعل، ليس من باب القسوة، بل من باب الشفقة والرعاية لروحنا ونفسنا، لئلا نكتسب نحن أيضاً رائحتهم الكريهة ونبتعد عن طريق النقاء. هذا اختيار حكيم للحفاظ على الرائحة الطيبة للإنسانية والإيمان في ذواتنا.