هل للقرآن رأي حول حرية التعبير ومسؤوليتها؟

القرآن الكريم يحدد حرية التعبير ضمن إطار أخلاقي وإلهي، مؤكداً على مسؤولية الكلمة. هذه الحرية مقيدة بالصدق والعدل، وتجنب إيذاء الآخرين، ووجود النوايا الحسنة، حيث تسجل كل كلمة ويحاسب الفرد عليها.

إجابة القرآن

هل للقرآن رأي حول حرية التعبير ومسؤوليتها؟

القرآن الكريم، وإن لم يستخدم مصطلح «حرية التعبير» بمفهومه الغربي الحديث الذي يتم تداوله في الخطابات المعاصرة، فقد تناول بالتفصيل مواضيع الكلام والبيان والمسؤوليات الفردية والمجتمعية المتعلقة بهما. إن النظرة القرآنية للتعبير ليست حرية مطلقة بلا قيود أو شروط تسمح لأي شخص أن يقول ما يشاء، بل هي حرية مقترنة بمسؤوليات أخلاقية وإلهية عميقة ضمن أطر محددة. في الواقع، يؤكد القرآن بشدة على «التعبير المسؤول»؛ أي التعبير الذي يكون هدفه الإصلاح والهداية ونشر الحق وإقامة العدل ومنع الفساد والشر والفتنة. هذه المسؤولية في الكلام هي ركن أساسي من أركان الأخلاق القرآنية، التي تحاسب الفرد ليس فقط على أفعاله بل على كلماته أيضاً. أحد أهم المبادئ التي يؤكد عليها القرآن هو الصدق والأمانة في القول. يدعو القرآن صراحة في آيات عديدة المؤمنين إلى قول الحق والابتعاد عن الكذب والبهتان والادعاءات الباطلة. فالكلام الصادق والصحيح هو أساس بناء المجتمع الإسلامي السليم. على سبيل المثال، يقول تعالى في سورة الأحزاب (33:70): «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا» (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً). هذه الآية تبين بوضوح أن كلام الإنسان يجب أن يكون مستقيماً، صادقاً، وبعيداً عن أي اعوجاج أو انحراف. كذلك، الشهادة بالحق، حتى لو كانت ضد النفس أو الأقارب، هي من الأوامر القرآنية الأخرى المشار إليها في سورة النساء (4:135): «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ...» (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين...). هذه الآيات تؤسس حرية التعبير على قاعدة الصدق والعدل، وتميزها عن الفوضى أو اللامبالاة. من ناحية أخرى، ينهى القرآن بشدة عن القول الضار والاتهام الباطل والغيبة والسخرية. حرية التعبير في المنظور الإسلامي لا تعني إباحة أي نوع من الكلام الذي يسبب الأذى أو ينتهك الكرامة أو يضر بالآخرين. هذه القيود ضرورية ليس فقط للحفاظ على كرامة الأفراد، بل أيضاً للحفاظ على السلام والتضامن داخل المجتمع الإسلامي. ففي سورة الحجرات (49:12)، يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ» (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم). هذه الآية تذم الغيبة بشدة وتساويها بأكل لحم الأخ الميت، مما يدل على فظاعة هذا الفعل. كذلك، في سورة الحجرات (49:11)، ينهى عن السخرية واللمز والهمز. هذه النواهي تدل على المسؤولية الكبيرة للكلام وتأثيره العميق على كرامة الأفراد وشرفهم وعلى السلامة العامة للمجتمع. فالكلام الذي يثير الفرقة، والشائعات التي لا أساس لها، وكل ما يؤدي إلى الفتنة والفساد في الأرض، كلها أمور يرفضها القرآن بشدة. المسؤولية عن ما يُقال هي أحد المحاور الرئيسية في تعاليم القرآن. فالقرآن يقر صراحة أن كل كلمة يتفوه بها الإنسان تُسجل، وسيحاسب الأفراد عليها. ففي سورة ق (50:18)، جاء: «مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). هذه الآية تشير إلى أن كل كلمة تُقال لها عواقب، وأن الإنسان سيُسأل عنها في حياته الآخرة. هذا المنظور يميز حرية التعبير عن الفوضى المطلقة، ويضعها ضمن إطار أخلاقي وقانوني إلهي. يجب على الإنسان أن يفكر في عواقب كلامه ونتائجه، في الدنيا والآخرة، وأن يمتنع عن الكلام الذي يؤدي إلى الإثم أو الضرر. كما يولي القرآن أهمية كبيرة لكيفية وطريقة التعبير. فالكلام الطيب واللين يعتبر من سمات المؤمنين. ففي سورة طه (20:44)، يأمر الله موسى وهارون أن يقولا لفرعون «قولاً ليّناً»، على الرغم من طغيانه وعصيانه وادعائه الألوهية. هذا يدل على أنه حتى في مواجهة الظالمين والمعارضين، يجب أن تكون طريقة التعبير حكيمة ولينة وعطوفة لتحقيق تأثير أكبر وعدم سد باب الهداية. وفي سورة البقرة (2:83)، يأمر الله بأن «قولوا للناس حسناً» (قولوا للناس حسناً). هذه التوجيهات تؤكد على أهمية الأدب والاحترام والرحمة وتجنب الإهانة والسباب في الكلام، وتقيد حرية التعبير بالمبادئ الأخلاقية والإنسانية. والاستثناء الوحيد لـ «الجهر بالسوء من القول» هو للمظلوم، الذي يسمح الله له بالجهر بالشكوى ضد الظالم (النساء 4:148). مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يرتبط أيضاً بمسؤولية التعبير. فالمؤمنون مكلفون بدعوة الناس إلى الخير ونهيهم عن الشر بكلماتهم وأفعالهم (آل عمران 3:104). هذه «حرية التعبير» تهدف إلى تعزيز صلاح المجتمع، ولكن مع مراعاة الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن (النحل 16:125). أي أن التعبير عن الحق والدعوة إليه يجب أن يتم بأفضل الطرق والمنطق، وليس بالعنف أو الإهانة أو إثارة الفرقة. هذا يوضح أن الكلام يمكن أن يكون أداة قوية للإصلاح الاجتماعي، ولكن يجب استخدام هذه الأداة بدقة ومسؤولية. باختصار، القرآن يعزز «حرية تعبير مسؤولة» يسمح فيها للإنسان بالتعبير عن آرائه وأفكاره، بشرط أن: 1. يقول الحقيقة دائماً ويتجنب الكذب والافتراء ونشر الشائعات. 2. يكون كلامه مصحوباً بالعدل والإنصاف، ولا يلحق الضرر بأحد. 3. يمتنع عن الغيبة والبهتان والسخرية وأي كلام ضار. 4. يتحدث بلغة طيبة ومحترمة، ويتجنب الفظاظة والسباب. 5. يكون الهدف من التعبير هو نشر الخير والهداية والإصلاح، وليس الفساد أو الفتنة أو إثارة الشقاق. 6. يكون الإنسان مسؤولاً ومحاسباً عن كل كلمة يتلفظ بها، ويعلم أن كلامه يُسجل في صحيفة أعماله. هذا الإطار القرآني للتعبير، بدلاً من أن يقيد الحرية، فإنه يسمو بها ويوجهها لتكون أداة للنمو الفردي والاجتماعي ولإرساء السلام والعدل في العالم، وليس وسيلة للهدم ونشر البوضلال.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يُروى أن ملكاً سأل حكيماً: «بين كل ما يتفوه به البشر، أي الكلام أفضل وأيّه أسوأ؟» فأجاب الحكيم: «أفضل الكلام ما كان فيه صدق، وأفضى إلى خير الناس وصلاحهم. وأسوؤه ما كان ممزوجاً بالكذب والبهتان، ولا ينتج إلا الفتنة والضرر.» فسأل الملك مرة أخرى: «وهل من كلام قد يبدو صادقاً، ولكنه أخطر من أي كذب؟» فأجاب الحكيم: «نعم، ذلك الكلام الذي يبدو صادقاً، ولكن نية قائله ليست إلا إيذاء القلوب وزرع بذور الشقاق. فإن الكذب يمكن كشفه وفضح الكاذب، أما سم الكلام الصادق في الظاهر والذي يُقال بنية سيئة، فإنه يتغلغل في النفوس ويهدم الأسس. لذا، تكمن حرية التعبير في أن ما تقوله يكون نابعاً من الحكمة والخير، ومن أجل الصالح العام، لا من حسد أو حقد، ولا لإلحاق الضرر.»

الأسئلة ذات الصلة