القرآن الكريم لم يستخدم صراحة مصطلح "العمل التطوعي"، لكنه يشجع بقوة جوهره من خلال مفاهيم مثل الإحسان، التعاون في البر، الإنفاق في سبيل الله، ورعاية المحتاجين. هذه الأنشطة هي تجلٍ عملي للإيمان والمسؤولية الاجتماعية في الإسلام، تؤدي إلى رضا الله وتحسين المجتمع.
القرآن الكريم، بصفته كتاب الهداية الإلهية، يقدم مجموعة شاملة من المبادئ والتوجيهات لجميع جوانب حياة الإنسان، بما في ذلك التفاعلات الاجتماعية والمسؤولية تجاه المجتمع. على الرغم من أن مصطلح "العمل التطوعي" لم يُذكر صراحة في آيات القرآن، إلا أن روحه وجوهره، أي مساعدة الآخرين، والتعاون في أعمال الخير، والإنفاق مما يمتلكه المرء، قد تم التأكيد عليها بوضوح وبإلحاح كبير. تربي التعاليم القرآنية المؤمنين ليس فقط على السعي لصلاحهم الشخصي، بل أيضًا على الاهتمام بصلاح وتحسين المجتمع الذي يعيشون فيه. يوفر هذا النهج النشط والمسؤول أسسًا قوية للمفهوم الحديث "للعمل التطوعي" في الإسلام. أحد أهم المفاهيم القرآنية المركزية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالعمل التطوعي هو مفهوم "الإحسان". الإحسان يتجاوز العدل؛ فالعدل يعني إعطاء كل ذي حق حقه كاملاً، أما الإحسان فيعني فعل شيء يتجاوز حقه، انطلاقًا من الكرم والجود. يدعو القرآن مرارًا المؤمنين إلى الإحسان ويعتبره من الصفات المحبوبة لله. في سورة البقرة، الآية 195، يقول تعالى: "وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". هذه الدعوة إلى الإحسان تشمل كل أنواع الخير والتضحية التي يقوم بها الفرد طواعية وبنية خالصة لخير وصلاح الآخرين. سواء كان ذلك في مجال المساعدة المادية، أو بذل الوقت، أو مشاركة المعرفة، أو تقديم المهارات، كل هذه الأمور تندرج ضمن الإحسان. العمل التطوعي، في جوهره، هو فعل إحسان يقوم به الفرد بمحض إرادته للمنفعة الجماعية، دون انتظار مكافأة مادية أو شكر. هذا العمل لا يفيد المستفيد فحسب، بل يصقل روح المحسن أيضًا ويمنحه شعورًا بالسلام الداخلي والرضا. المبدأ الآخر الذي يشكل أساس العمل الجماعي والتطوعي هو "التعاون على البر والتقوى". في سورة المائدة، الآية 2، يقول الله تعالى: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ". هذه الآية توجيه صريح للمشاركة الجماعية في الأعمال الإيجابية والبناءة. العمل التطوعي، بطبيعته، هو نشاط جماعي تشاركي يجتمع فيه الأفراد بهدف مشترك هو مساعدة المجتمع وحل مشاكله. يمكن أن يتجلى هذا التعاون في أشكال مختلفة، مثل المنظمات الخيرية، أو فرق الإغاثة في الكوارث الطبيعية، أو البرامج التعليمية للأطفال المحتاجين، أو المبادرات البيئية. تعلم هذه الآية المؤمنين أن مسؤوليتهم الاجتماعية لا تقتصر على أداء الواجبات الدينية الفردية، بل تشمل المشاركة الفعالة في بناء مجتمع أفضل وأكثر عدلاً. مفهوم "الإنفاق في سبيل الله" يشمل أيضًا العمل التطوعي بشكل واسع. على الرغم من أن الإنفاق غالبًا ما يفسر على أنه بذل مالي، إلا أنه في المعنى القرآني الأوسع يشمل كل أنواع الإنفاق والتضحية في سبيل الله، سواء كان مالًا، أو نفسًا، أو وقتًا، أو علمًا، أو خبرة، أو مهارة. يؤكد القرآن بشدة على الأجور العظيمة للإنفاق. في سورة البقرة، الآية 261، نقرأ: "مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ". هذا الأجر المضاعف ليس فقط للإنفاق المالي، بل لكل أنواع البذل والتضحية في سبيل الله، بما في ذلك الوقت والجهد المبذول في العمل التطوعي. تعتبر هذه الآيات حافزًا قويًا للمشاركة في الأنشطة الخيرية، حيث تبين أن كل جهد، مهما كان صغيرًا، يُبذل في سبيل الله، سيُضاعف أجره مرات عديدة. بالإضافة إلى ذلك، يؤكد القرآن مرارًا على ضرورة رعاية حقوق المحرومين والفئات الضعيفة في المجتمع. فالأيتام والمساكين والأسرى وابن السبيل والمحتاجون كانوا دائمًا محط اهتمام خاص في القرآن. في سورة الإنسان، الآيتان 8 و 9، تصوران قمة الإيثار والتضحية في مساعدة المحتاجين: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴿٨﴾ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴿٩﴾". هذه الروح من الإيثار وتقديم المساعدة دون انتظار مقابل تشكل أساس العمل التطوعي. سواء كان ذلك بتوفير الطعام، أو التعليم، أو الرعاية الصحية، أو المساعدة في إصلاح المنازل، فإن جميع هذه الأنشطة تتماشى مع هذه التوجيهات القرآنية. "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" هو بُعد اجتماعي آخر في الإسلام يمكن أن يتجلى في العمل التطوعي. لا يقتصر هذا الواجب على التوجيه اللفظي فحسب، بل يشمل المشاركة الفعالة في إصلاح المجتمع، وتعزيز القيم الأخلاقية، ومكافحة الفساد والمنكرات. في سورة آل عمران، الآية 104، يقول الله تعالى: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ". تؤكد هذه الآية على ضرورة وجود مجموعة من الناس تتولى مسؤولية الدعوة إلى الخير ومحاربة المنكر. يمكن لهذه المجموعات أن تعمل في شكل منظمات تطوعية تهدف إلى رفع مستوى الثقافة، والأخلاق، والصحة في المجتمع. هذا العمل ليس واجبًا شرعيًا فحسب، بل هو أداة قوية لبناء مجتمع صحي وحيوي. في الختام، توفر الفلسفة الشاملة "للخلافة" و"العمل الصالح" في القرآن أسسًا متينة للعمل التطوعي. فالإنسان بصفته خليفة الله في الأرض، يتحمل مسؤولية إعمارها ورعاية مخلوقات الله. إن أداء الأعمال الصالحة، التي ذُكرت مرارًا في القرآن جنبًا إلى جنب مع الإيمان، لا يقتصر على العبادات الفردية فحسب، بل يشمل كل عمل يفيد الفرد والأسرة والمجتمع. العمل التطوعي هو مثال واضح للعمل الصالح الذي لا يعود بالنفع على الفرد فحسب، بل يعود بالنفع الكامل على الآخرين والمجتمع. هذه الأعمال الصالحة تعمق إيمان الفرد وتهديه إلى سعادة الدنيا والآخرة. من هذا المنظور، فإن القرآن لا يتبنى رأيًا إيجابيًا حول العمل التطوعي فحسب، بل يعتبره جزءًا لا يتجزأ من المسؤولية الاجتماعية والعبودية الحقيقية في الإسلام، ويشجع المؤمنين على المشاركة الفعالة في هذا المجال. إن هذه الأنشطة هي تجسيد عملي للإيمان ورحمة يمنحها الله لعباده، ويجب على الإنسان أن يستفيد من هذه الرحمة وينشرها للآخرين.
في أحد الأيام، سُئل سعدي الشيرازي: 'ما هو العمل الأحب إلى الله؟' فأجاب بابتسامة دافئة: 'إدخال السرور على قلب حزين.' ثم تابع: 'تلبية حاجة فقير خير من مئات ركعات النوافل. لا تظن أن مجرد الصوم والصلاة سيقربك إلى الله؛ فالعبودية الحقيقية تكمن في خدمة الخلق. إذا أردت أن تصل إلى قرب الحق، فاخدم مخلوقاته.' تذكرنا هذه القصة الجميلة بأن العمل التطوعي، أي مساعدة إخواننا البشر بنية خالصة، هو من أسمى أشكال العبادة التي تجلب رضا الله وتضيء القلوب.