على الرغم من أن القرآن لا يشير مباشرة إلى العالم الافتراضي، إلا أن مبادئه العالمية حول الكلام والمسؤولية اللفظية وضرورة الصدق يمكن تطبيقها على الفضاء الرقمي. كل كلمة تقال عبر الإنترنت تُسجل وتترك آثارًا إيجابية أو سلبية على المجتمع، مما يستلزم استخدامها بحذر ومسؤولية.
القرآن الكريم هو كتاب الهداية الإلهية لكل العصور والأزمان. وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك مفهوم لـ «العالم الافتراضي» أو «الإنترنت» أو «الفضاء الرقمي» في زمن نزول القرآن، إلا أن مبادئه وتعاليمه الشاملة حول الكلام، وأخلاقيات اللسان، وتأثير الكلمات، تنطبق تمامًا على أي وسيلة تواصل، بما في ذلك العالم الافتراضي اليوم. في الواقع، لقد تناول القرآن بدقة متناهية أبعاد الكلام المختلفة وتأثيره على الفرد والمجتمع، وقد اكتسبت هذه التعاليم أهمية مضاعفة في العصر الرقمي. أحد أهم المبادئ التي يؤكد عليها القرآن هو المسؤولية عن كل كلمة. ففي سورة ق، الآية 18، يقول الله تعالى: «مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»؛ أي «لا يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد». هذه الآية تشكل الأساس الأخلاقي لمسؤوليتنا عن كلامنا. في العالم الافتراضي، كل كلمة، كل منشور، كل تعليق، وكل رسالة ننشرها، يتم «تسجيلها» بطريقة ما، وتترك آثارًا دائمة. وهذا «الرقيب العتيد» يمكن أن يشير إلى التسجيل الإلهي لأعمالنا وأقوالنا التي سنحاسب عليها يوم القيامة، وكذلك إلى البصمة الرقمية الدائمة التي نتركها في الفضاء الافتراضي والتي يمكن أن تبقى إلى الأبد وتترتب عليها عواقب دنيوية. يؤكد القرآن أيضًا على ضرورة الصدق وتجنب الكذب وإشاعة الشائعات. ففي سورة الحجرات، الآية 6، يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ»؛ أي «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين». هذه الآية هي الدليل الأهم في عصر المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة (Fake News) في العالم الافتراضي. يجب على مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي التأكد من صحة أي خبر قبل نشره لتجنب إلحاق الضرر بالمجتمع والأفراد. إن نشر الأكاذيب والشائعات في الفضاء الافتراضي يمكن أن ينتشر بسرعة ويضر بسمعة الأفراد وحتى بالأمن الاجتماعي. بالإضافة إلى ذلك، يولي القرآن أهمية خاصة لـ نوعية وجودة الكلام. فقد أكدت العديد من الآيات على «القول الحسن». ففي سورة البقرة، الآية 83، نقرأ: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا»؛ أي «وقولوا للناس حسنا». وهذا يشمل الابتعاد عن الكلمات البذيئة والمهينة والسخرية والسب. في البيئة الافتراضية، حيث يختبئ الأفراد خلف شاشاتهم، تزداد الرغبة في استخدام كلمات قاسية وغير مهذبة. يعلمنا القرآن أنه يجب علينا دائمًا مراعاة الأدب والاحترام في كلامنا، سواء في الفضاء الحقيقي أو الافتراضي. فالسخرية من الآخرين (الحجرات، 11)، والغيبة والنميمة (الحجرات، 12)، والاتهام بالباطل (النور، 19) كلها من كبائر الذنوب التي حرمها القرآن بشدة، وللأسف تحدث كثيرًا على منصات التواصل الاجتماعي. كما يشير القرآن إلى قوة تأثير الكلمات. في سورة إبراهيم، الآيات 24-26، ضرب الله مثلًا جميلًا للكلمات الطيبة والخبيثة: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ»؛ أي «ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار». هذه الآيات توضح بجلاء أن كلماتنا يمكن أن تكون كشجرة مثمرة، مصدر خير وبركة ونماء، أو كشجرة بلا جذور، عامل فساد وخراب وعدم استقرار. في العالم الافتراضي، كلمة طيبة يمكن أن تلهم الآلاف، وكلمة مدمرة يمكن أن تمزق مجتمعًا. الفضاء الافتراضي هو منصة تنتشر فيها الكلمات، سواء كانت جيدة أو سيئة، بسرعة لا مثيل لها وتترك آثارًا واسعة النطاق. باختصار، على الرغم من أن القرآن لا يشير إلى التقنيات الحديثة، إلا أنه بتوجيهاته الشاملة والعميقة حول أخلاقيات الكلام، والمسؤولية عن الكلمات، وأهمية التحقق، وتجنب الإيذاء اللفظي، واستخدام الكلام لنشر الخير والحقيقة، يقدم إطارًا لا مثيل له لـ «الأخلاق الرقمية» والاستخدام الصحيح لقوة الكلمات في العالم الافتراضي. هذه التعاليم تذكرنا بأن اللسان، سواء في العالم الحقيقي أو في الفضاء الافتراضي، هو أمانة إلهية يجب استخدامها بعناية ومسؤولية وبنية طيبة.
يذكر في گلستان سعدي أنه سُئل أحد الحكماء: «من بين جميع أعضاء الجسد، أيها أقل معاناة وأكثر فائدة؟» فأجاب: «الذي يتكلم بالحسنى، أي اللسان.» وإن تكلم بالسوء، جلب الألم والبلاء العظيم. ويحكى أن تاجراً كان يعاني كثيراً من لسانه. ففي بعض الأحيان، بكلماته غير المدروسة، كان يذهب ماء وجه أحد أو يكسر قلب آخر. ذات يوم، ذهب إلى حكيم وتنهد قائلاً: «يا حكيم الزمان! لقد سئمت من لساني هذا الذي يوقعني دائماً في المشاكل. دلني على حل!» فقال الحكيم بابتسامة حانية: «السر يكمن في كبح جماح لسانك. فكما تستطيع أن تجبره على النطق بالسوء، كذلك تستطيع أن تدربه على النطق بالخير والصواب. اعلم أن كل كلمة تنطق بها، تُسجل في صحيفة الوجود، وفي يوم من الأيام سترى جزاءها أو عقابها. إنها كالبذور؛ إن زرعت خيراً، حصدت خيراً، وإن زرعت شراً، فلن ترى إلا الخسران.» تعلم التاجر من نصيحة الحكيم تلك، ومنذ ذلك الحين، بات حريصاً على كلماته. لم ينطق إلا بالخير، وكانت كلماته تفوح منها رائحة الود والصدق. شيئاً فشيئاً، ذاع صيته الحسن ووثق به الناس، لأنهم عرفوا أن كلماته مرآة لروحه النقية. تذكرنا هذه القصة أن قوة اللسان، سواء في الحديث وجهاً لوجه أو في العالم الافتراضي الواسع، عظيمة ويجب استخدامها بدقة ومسؤولية.