هل يتحدث القرآن عن تعزيز المسؤولية الجماعية؟

نعم، يؤكد القرآن الكريم بشكل واسع على المسؤولية الجماعية، معتبرًا إياها ركيزة لمجتمع عادل ومستقر. يشمل ذلك التعاون على البر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوحدة، وإقامة العدالة الاجتماعية.

إجابة القرآن

هل يتحدث القرآن عن تعزيز المسؤولية الجماعية؟

القرآن الكريم، بصفته دليلًا شاملاً للحياة البشرية، لا يتناول الأبعاد الفردية والروحية للإنسان فحسب، بل يحدد أيضًا بالتفصيل أسس المجتمع الفاضل والمسؤول. يتداخل مفهوم "المسؤولية الجماعية" بعمق في نسيج التعاليم القرآنية، مؤكدًا بوضوح ودقة على التعاون والتكاتف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوحدة الاجتماعية. هذا المنظور الشامل يوجه المسلمين ليس فقط نحو الكمال الفردي، بل نحو بناء مجتمع عادل، رحيم، ومتقدم. في الواقع، رسالة الإسلام ليست مجرد إقامة الدين فرديًا، بل إقامته في سياق المجتمع وضمان السعادة والعدالة لجميع أفراد المجتمع. هذا يدل على أن القرآن دين اجتماعي، ويعرّف رفاهية المجتمع بأنها مسؤولية مشتركة لجميع أفراده. من أهم الآيات في مجال المسؤولية الجماعية هي الآية الثانية من سورة المائدة التي تقول: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ". هذه الآية تقدم مبدأً أساسيًا وشاملًا للعلاقات الاجتماعية بين المؤمنين. "البِرّ" مفهوم واسع يشمل كل أنواع الخير والإحسان والعدالة وطلب العلم وخدمة الناس وتلبية احتياجات المحتاجين. أما "التقوى" فتعني تجنب الذنوب ومراعاة حدود الله. ولذلك، يدعو القرآن الكريم المسلمين إلى التعاون والتكاتف في جميع جوانب الحياة، من التنمية العلمية والثقافية إلى مساعدة الفقراء والمظلومين، ومن إقامة العدل في العلاقات التجارية إلى حماية البيئة. يمكن أن يظهر هذا التعاون في أشكال مختلفة، مثل المنظمات الخيرية، وصناديق القروض الحسنة، والأنشطة التعليمية، والمشاركات الاجتماعية والسياسية البناءة. هذا الأمر الإلهي ليس مجرد اقتراح، بل هو التزام اجتماعي يهدف إلى إنشاء شبكة دعم قوية ورفع مستوى الحياة الروحية والمادية في المجتمع. إن عدم التعاون في هذا الصدد يمكن أن يؤدي إلى الضعف والانهيار الاجتماعي، بينما التعاون هو القوة الدافعة للتقدم والازدهار، مما يجعل المجتمع صامدًا أمام التحديات الخارجية والداخلية. يجب ألا يقتصر هذا التعاون على القضايا الكبرى فحسب، بل يجب أن يمتد إلى أدق تفاصيل الحياة اليومية، حيث يشعر الجار بالمسؤولية تجاه جاره، والقريب تجاه قريبه، والصديق تجاه صديقه. علاوة على ذلك، فإن واجب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" هو أحد أبرز رموز المسؤولية الجماعية في القرآن. في الآية 104 من سورة آل عمران، نقرأ: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ". هذه الآية تؤكد بوضوح على المسؤولية الجماعية في إصلاح المجتمع. لا يعني "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" مجرد التذكير اللفظي، بل يشمل أي إجراء عملي لتعزيز الخير ومنع الشر على مستوى المجتمع. يمكن أن يتم ذلك من خلال التعليم والتربية، وخلق فرص العمل، وإصلاح القوانين، ومكافحة الفساد، ودعم المظلومين، وحتى إيقاظ الوعي العام. هذه الواجبات لا تقع على عاتق الحكومة أو مؤسسات معينة فحسب، بل على عاتق جميع المؤمنين، وعلى كل فرد أن يشارك في هذا الميدان بقدر استطاعته وقدرته. تضمن هذه المسؤولية صحة المجتمع الأخلاقية والاجتماعية وتمنع انحرافه وفساده. تعزز الآية 71 من سورة التوبة هذا المفهوم: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ". هذه الآية توضح العلاقات المتبادلة بين المؤمنين، وتعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزءًا لا يتجزأ من علاقة الولاية والرعاية المتبادلة. ويؤكد القرآن الكريم أيضًا على أهمية "الوحدة وتجنب الفرقة"، وهي ركيزة أساسية للمسؤولية الجماعية. في الآية 103 من سورة آل عمران، يقول تعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا". هذه الآية تؤكد على ضرورة الوحدة والتماسك الاجتماعي. تقتضي المسؤولية الجماعية أن يقاوم المؤمنون الخلافات والانقسامات وأن يظلوا دائمًا متحدين حول القرآن والتعاليم الإلهية. إن التفرقة والشتات هما نقطة ضعف لأي مجتمع، مما يجعله عرضة للتحديات والتهديدات. بهذا الأمر، يوجه القرآن المجتمع نحو التماسك والتعاطف، مما يؤدي إلى زيادة القوة والقدرة الجماعية لتحقيق أهداف أكبر والتغلب على المشاكل. وتشمل هذه المسؤولية الجماعية أيضًا إقامة "العدالة الاجتماعية". تدعو العديد من الآيات المسلمين إلى مراعاة العدل حتى تجاه الأعداء والمعارضين. هذا الواجب هو مسؤولية جماعية تقع على عاتق الحكام وجميع الأفراد. على سبيل المثال، في سورة النساء، الآية 135، جاء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ...". هذا يدل على أن الحفاظ على العدل في المجتمع واجب عالمي لا يستثنى منه أحد. باختصار، يقدم القرآن الكريم من خلال تعاليمه العميقة والشاملة، المسؤولية الجماعية كركيزة أساسية لمجتمع مؤمن ومزدهر. من التعاون على البر والتقوى وتجنب الإثم، إلى واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ضرورة الوحدة وتجنب الفرقة، إلى أهمية إقامة العدل والتضامن الاجتماعي، كلها تشير إلى نظرة الإسلام الشمولية للفرد والمجتمع. هذه المسؤوليات لا تقتصر على العبادات الفردية فحسب، بل تشمل جميع أبعاد الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية. إن الأمة الإسلامية، في ظل هذه التعاليم، ملزمة بمساعدة بعضها البعض، والسعي لإصلاح الأمور، والعمل من أجل سعادة البشرية جمعاء. بناءً عليه، يمكن القول بثقة أن القرآن الكريم يتناول على نطاق واسع وبالتفصيل مسألة تعزيز المسؤولية الجماعية، ويعتبرها أحد الأعمدة الحيوية لمجتمع سليم ومستقر. هذه المسؤوليات، كونها أسسًا أخلاقية واجتماعية، تضمن تقدم المجتمع ورفعته في كل زمان ومكان.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

رُويَ أنَّ بين الناس، كجسد واحد، كل عضو متصل بغيره. إذا ما أصابت شوكة قدم أحدهم، فإن الجميع يشعر بألمها، وحتى تُنزع تلك الشوكة، لن يستقر السلام في قلوب الآخرين. سُئل حكيم لماذا تسعى بكل قلبك وروحك إذا رأيت درويشًا متألمًا؟ فأجاب: 'لأنني أعلم أن راحتي من راحته، ونقصه هو نقصي.' هذه الحكاية من بستان سعدي تُذكّرنا بأن سعادة المجتمع وسلامه لا تنبع من الانقسامات، بل من التضامن والتعاطف؛ فكل ذرة تسعى في طريق الخير تخفف عن الآخرين، ونور الجماعة يتأتّى من إشراق كل فرد. في هذا الجسد، كل يد مساعدة هي بلسم لجرح الآخر، وكل كلمة خير هي نور في ظلام طريق المجتمع.

الأسئلة ذات الصلة