يؤكد القرآن الكريم بشدة على أشكال الكلام المهذب والحكيم مثل 'القول الكريم' و'القول اللين' و'القول السديد'، بينما يحرم بشدة أشكال الكلام السلبية كالسخرية والغيبة. هذه التعاليم ضرورية لبناء مجتمع قائم على الاحترام والسلامة الروحية.
يتناول القرآن الكريم، بصفته كتاب هداية ونور للبشرية، أهمية الكلام الصحيح والمهذب وتفاصيله بعمق. في كل آية من آياته النورانية، لا يأمر الناس بكيفية التحدث مع بعضهم البعض فحسب، بل يحذرهم أيضًا من أن الكلام هو انعكاس لشخصية الفرد وإيمانه وتربيته، وله تأثير عميق على العلاقات الاجتماعية وحتى مسار الحياة الدنيوية والأخروية. الأدب في الكلام من منظور القرآن ليس مجرد قاعدة أخلاقية، بل هو جزء لا يتجزأ من التقوى والحكمة والإيمان الحقيقي. تشمل هذه التعاليم مجموعة واسعة من الإرشادات، بدءًا من كيفية التحدث مع الوالدين والحكام وصولاً إلى التعامل مع المحتاجين والغرباء وحتى الأعداء. من أهم الأوامر القرآنية في مجال أدب الكلام هو "القول الكريم" أو الكلام النبيل والمحترم. يتم التأكيد على هذا المفهوم بشكل خاص فيما يتعلق بالوالدين. في سورة الإسراء، الآية 23، يقول الله تعالى: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا"؛ أي: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ۚ إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما". هذه الآية تبين أن حتى أصغر علامة من عدم الاحترام أو كلمة تدل على الضيق غير مقبولة تجاه الوالدين. "القول الكريم" يعني الكلام الذي يُعبر عنه باحترام ومحبة وتواضع وتقدير، ويجلب الطمأنينة للمستمع. يعكس هذا النوع من الكلام عمق التربية الإسلامية واحترام مكانة الأفراد، خاصة أولئك الذين لهم فضل كبير علينا. إنه يبرز التوقير العميق المستحق لمن ربونا، مؤكدًا أن كلماتنا يجب أن تحمل دائمًا الدفء والشرف والتقدير الصادق. هذا الأمر يتجاوز مجرد اللباقة؛ إنه يجسد جوهر بر الوالدين والمودة الحقيقية، ويعزز الروابط الأسرية ويشجع على جو من الاحترام المتبادل والوئام الروحي. نوع آخر من الكلام المرغوب فيه هو "القول اللين" أو الكلام اللطيف واللين. تُعرض هذه التعاليم في سورة طه، الآية 44، بخصوص طريقة تحدث موسى وهارون مع فرعون، طاغية زمانهم: "فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ"؛ أي: "فتكلما معه (فرعون) بلين، لعله يتذكر أو يخشى." تُلقي هذه الآية درسًا عظيمًا مفاده أنه حتى عند مواجهة أشد الأفراد عتوًا وغرورًا، يجب استخدام نبرة ناعمة وكلمات لطيفة لفتح الطريق أمام الحقائق لتتغلغل. يعني الكلام اللين تجنب الألفاظ القاسية أو الفظة أو المسيئة أو الساخرة، وبدلًا من ذلك، اختيار الكلمات المهدئة والمقنعة والخالية من أي توتر. الهدف من "القول اللين" ليس فقط الحفاظ على الأدب والاحترام، بل أيضًا توفير بيئة يمكن فيها سماع الرسالة والتأثير على القلوب. يدل هذا النوع من الكلام على صبر المتحدث وحكمته وبصيرته، ويساعده على التغلب على العقبات في طريق دعوة الآخرين إلى الحق. إنه يعكس فهمًا عميقًا لعلم النفس البشري، مدركًا أن العدوان غالبًا ما يولد المقاومة، في حين أن اللين يمكن أن ينزع سلاح العداء ويفتح قنوات للحوار والتأمل. "القول السديد" أو الكلام السوي والصحيح هو أيضًا من توصيات القرآن. في سورة الأحزاب، الآية 70، جاء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا"؛ أي: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا." يشير "القول السديد" إلى الكلام الذي يقوم على الحقيقة والعقل والمنطق والصواب؛ كلام يخلو من أي كذب أو افتراء أو غيبة أو نميمة أو خداع. يشمل هذا النوع من الكلام الصدق والدقة في ذكر الحقائق وتجنب نشر الشائعات والتحريف. الكلام السديد يقوي أسس الثقة في المجتمع ويمنع سوء التفاهمات والنزاعات. عندما يكون كلام الإنسان سديدًا، فإنه لا ينجو شخصيًا فحسب (كما ورد في الآية 71 من سورة الأحزاب، بعد هذه الآية)، بل يساهم أيضًا في إصلاح المجتمع وخلق بيئة صحية وجديرة بالثقة. يمتد هذا الأمر إلى جميع أشكال التواصل، بما في ذلك الخطاب العام والشهادات القانونية والتفاعلات الشخصية، مما يؤكد على أهمية النزاهة اللفظية في بناء مجتمع عادل وأخلاقي. بالإضافة إلى ذلك، ينهى القرآن الكريم صراحة عن أنواع الكلام القبيح وغير المرغوب فيه. سورة الحجرات، الآيتان 11 و 12، مثالان بارزان لهذه النواهي: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ... وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ... وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا"؛ أي: "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم... ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون... ولا يغتب بعضكم بعضا." تحرم هذه الآيات صراحة السخرية والعيب واستخدام الألقاب القبيحة والغيبة. هذا النوع من الكلام لا ينتهك الأدب فحسب، بل يسبب أيضًا الضيق والاستياء والفرقة ويقلل من كرامة الأفراد في المجتمع. يؤمن القرآن بأن أي شكل من أشكال الكلام الذي يهين الكرامة الإنسانية يتعارض مع روح الإيمان والتقوى. إنه يسلط الضوء على أن الإيمان الحقيقي يستلزم احترام قدسية كل فرد، مما يضمن أن كلماتنا ترتقي بدلاً من أن تحط من شأن الآخرين. تخدم هذه المحظورات بناء مجتمع يقوم على الاحترام المتبادل والتعاطف والتقدير الإيجابي، مما يعكس التأكيد الإسلامي على الأخوة والأخوات. علاوة على ذلك، في سورة لقمان، الآية 19، في نصيحة لقمان الحكيمة لابنه، توجد إشارة إلى الاعتدال في الصوت وتجنب رفع الصوت دون داعٍ: "وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ"؛ أي: "واعتدل في مشيك واخفض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير." لا تشير هذه الآية إلى الأدب في المشي فحسب، بل أيضًا إلى الأدب في الكلام من حيث علو الصوت. الصياح العالي وغير المبرر علامة على قلة الأدب وعدم مراعاة الاحترام ويمكن أن يسبب إزعاجًا للآخرين. يؤكد الإسلام على الاعتدال في جميع الأمور، بما في ذلك الكلام. إنه يعلم أن القوة الحقيقية لا تكمن في الصياح، بل في وضوح الكلمات وحكمتها ورباطة جأشها. من المرجح أن ينقل النبرة اللطيفة والمتوازنة الاحترام ويدعو إلى التفكير المتأني، مما يساهم في تفاعل متناغم وسلمي. في الختام، يعلمنا القرآن الكريم أن الكلام أداة قوية للغاية يمكن أن تبني أو تدمر. لذلك، يلزم على المسلمين أن يمارسوا أقصى درجات العناية واليقظة في كلامهم. تشمل هذه العناية اختيار الكلمات، نبرة الصوت، محتوى الكلام، وحتى توقيت ومكان التواصل. الأدب في الكلام في الإسلام هو جزء من العبادة وطريق للتقرب إلى الله، فالكلمات الطيبة تعكس قلبًا سليمًا وإيمانًا راسخًا. لا يؤدي الالتزام بهذه الآداب إلى جعل الحياة الفردية أكثر سلامًا فحسب، بل يساهم أيضًا بشكل كبير في خلق مجتمع متعاطف، مبني على الثقة وملتزم بالقيم الإنسانية. وبالتالي، توفر التعاليم القرآنية المتعلقة بأدب الكلام إطارًا شاملاً ودائمًا لحياة اجتماعية صحية وروحية.
يُروى في گلستان سعدي أن درويشين من خراسان، أحدهما حسن الكلام والآخر سيء الخلق، سافرا معًا. وصلا إلى مدينة يحكمها حاكم شديد. فما كان من الدرويش سيء الخلق إلا أن بدأ على الفور بذم الحاكم من خلف ظهره، بينما كان الدرويش حسن الكلام لا يتحدث إلا عن الحكمة والسلام العام. لم يمض وقت طويل حتى جاء حراس الحاكم واعتقلوا الدرويش سيء الخلق بتهمة الكلام البذيء، بينما بقي الدرويش حسن الكلام سالمًا. زار الدرويش حسن الكلام صديقه في السجن لاحقًا وقال له: 'ألم أقل لك لا تتكلم بسوء عن الآخرين من خلف ظهورهم، فإن كلامك سيُسمع ويُحاسب عليه؟ انظر عاقبة الكلام القاسي، بينما اللسان اللين يمر بين الشوك دون أن يصيبه ضرر.' اعترف الدرويش سيء الخلق بالحكمة، بعد أن تعلم درسه بالطريقة الصعبة. تظهر هذه القصة أن الكلمة الطيبة والموزونة كالمَرهم، بينما اللسان الخشن يمكن أن يجرح صاحبه أيضًا.