كيف يدعونا القرآن إلى الصدق في الفضاء الرقمي؟

يدعو القرآن إلى الصدق في الفضاء الرقمي عبر مبادئ خالدة كالصدق والتحقق وتجنب الكذب والغيبة. كل قول وفعل في هذا الفضاء مسجل، مما يستلزم المسؤولية والعدل في التفاعلات الرقمية.

إجابة القرآن

كيف يدعونا القرآن إلى الصدق في الفضاء الرقمي؟

القرآن الكريم، بصفته كتاب هداية للمسلمين، يقدم مبادئ خالدة وعالمية للحياة الفردية والاجتماعية للبشر. وعلى الرغم من أن مفهومي «الفضاء الرقمي» أو «الإنترنت» لم يكونا موجودين وقت نزول القرآن، إلا أن تعاليمه المتعلقة بالصدق والأمانة والمسؤولية في القول والعمل، وتجنب الكذب والافتراء، تنطبق بالكامل وبعمق كبير على تفاعلاتنا في عالم اليوم، بما في ذلك الفضاء الرقمي. يدعونا القرآن إلى ستة مبادئ أساسية للحفاظ على الصدق في هذا الوسط الجديد، والتي سنتناولها بالتفصيل. المبدأ الأول وربما الأهم هو «الصدق» والقول الحق. يدعو القرآن مرارًا المؤمنين إلى الصدق في جميع جوانب الحياة. الصدق في الفضاء الرقمي يعني أننا يجب أن نكون صادقين تمامًا في نشر المعلومات، والتعبير عن الآراء، وحتى في تقديم هويتنا. يشمل ذلك الابتعاد عن الأخبار الكاذبة، والشائعات التي لا أساس لها، والمعلومات المحرفة. فالتزوير، وإنشاء هويات وهمية (حسابات مزيفة)، أو نشر محتوى مضلل، كلها تُعد في منظور القرآن كذبًا ونفاقًا. يقول الله تعالى في سورة التوبة الآية 119: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين). تشير هذه الآية إلى أن الصدق سمة أساسية للمؤمن ويجب الالتزام بها في أي منصة، سواء في تجمع الأصدقاء أو في الفضاء الافتراضي. الصدق لا يحافظ على مصداقية الفرد فحسب، بل يساهم بشكل كبير في خلق بيئة آمنة وجديرة بالثقة في الفضاء الرقمي. المبدأ الثاني هو «التبين» والتحقيق والتدقيق. في عالم اليوم حيث تنتشر المعلومات بسرعة مذهلة، يدعونا القرآن إلى التفكير والتحقق من صحة الأخبار قبل نشرها أو تصديقها. وقد ورد هذا المبدأ بوضوح في سورة الحجرات الآية 6: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين). هذه الآية هي أمر مباشر لمكافحة الأخبار الكاذبة والأخبار المزيفة والشائعات في الفضاء الافتراضي. قبل إعادة نشر رسالة أو صورة أو فيديو، يجب أن نتأكد من صحتها، لأن أي معلومات خاطئة ننشرها يمكن أن تؤدي إلى عواقب لا يمكن إصلاحها للأفراد أو للمجتمع. في الواقع، هذه الآية هي العمود الفقري لمحو الأمية الإعلامية من منظور قرآني. المبدأ الثالث هو تجنب «الغيبة» و«البهتان» و«الافتراء». يوفر الفضاء الرقمي، بسبب anonymity النسبي وسهولة التعبير، أرضية خصبة للغيبة والاتهام والكلام السيء عن الآخرين. يدين القرآن بشدة هذه الأفعال. في سورة الحجرات الآية 12 يقول: «وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ» (ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه). هذا التشبيه الصادم يظهر قبح هذا الفعل، سواء في الفضاء الحقيقي أو الافتراضي. أي نشر لمعلومات خاصة أو شائعات أو إهانات للآخرين، حتى لو كان مجهول الهوية، يُعتبر في نظر القرآن عملاً محرمًا ومدمّرًا. الصدق في الفضاء الرقمي يعني احترام خصوصية وسمعة الآخرين وتجنب كل ما يؤدي إلى انتهاك حرمتهم أو إزعاجهم. المبدأ الرابع هو «قول سديد» أو القول الصائب والمحكم. يدعو القرآن المؤمنين إلى الكلام الحازم والمنطقي، وبعيدًا عن اللغو والعبث. في سورة الأحزاب الآية 70 جاء: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا» (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا). في الفضاء الرقمي، تعني هذه الآية أنه يجب علينا استخدام كلمات مدروسة ومسؤولة في كتاباتنا وكلامنا، سواء في التعليقات أو المنشورات أو الرسائل الخاصة. تجنب الإهانة والسباب والتحريض على العنف، واستخدام اللغة الجارحة وغير المهذبة، كلها جزء من متطلبات «القول السديد» في الفضاء الافتراضي. القول الذي يتضمن الصدق واحترام المستمع يؤدي إلى تفاعلات أكثر بناءً ومساحة افتراضية أكثر صحة. المبدأ الخامس هو «المسؤولية» والوعي بالحساب. يوضح القرآن صراحة أن كل كلمة وعمل يصدر منا يتم تسجيله وسيتم مساءلتنا عنه يوم القيامة. في سورة ق الآية 18 نقرأ: «مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). يجب أن يسود هذا الوعي في الفضاء الرقمي أيضًا. يعتقد الكثيرون أنهم خلف قناع المجهولية أو اسم مستعار يمكنهم قول أو نشر ما يريدون. لكن القرآن يذكرنا بأن الله مطلع على كل شيء، ولا يخفى عليه شيء. هذه المسؤولية الأخلاقية تدفع الفرد إلى الالتزام بالصدق والإنصاف والأدب في كل تفاعل، حتى لو كان مع جمهور غير معروف. في الواقع، الفضاء الافتراضي هو سجل مفتوح لتسجيل أقوالنا وأفعالنا. المبدأ السادس والأخير هو «العدل» والإنصاف. يدعو القرآن دائمًا المؤمنين إلى إقامة العدل في جميع شؤون الحياة، حتى لو كان ذلك ضد أنفسهم أو أقربائهم. في سورة النساء الآية 135 جاء: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَیْنِ وَالْأَقْرَبِينَ» (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين). هذا المبدأ يعني أنه يجب علينا أن نتحلى بالإنصاف في الفضاء الرقمي أيضًا. في النقد والمراجعات، وفي الأحكام، وعند مواجهة الآراء المعارضة، يجب أن نتجنب أي تعصب أو سوء نية أو ظلم. الصدق هنا يعني تقديم وجهات النظر بإنصاف واحترام، وتجنب الأحكام المتسرعة أو المدمرة. حتى عند مواجهة أخطاء الآخرين، يجب أن نتصرف بنهج تصحيحي وليس تدميري. في الختام، يقدم القرآن الكريم من خلال هذه المبادئ الأخلاقية الأساسية، إطارًا شاملاً للسلوك المؤمن في أي وسط، بما في ذلك الفضاء الرقمي. الصدق في الفضاء الرقمي لا يعني فقط قول الحقيقة، بل يشمل أيضًا المسؤولية في الأحكام، والدقة في نشر المعلومات، واحترام الآخرين، والامتناع عن أي عمل يؤدي إلى الكذب أو الخداع أو الضرر. هذه التعاليم ترشدنا لبناء عالم افتراضي أكثر صحة وإنسانية وقائم على الثقة والاحترام المتبادل، عالم يتم فيه كل نقرة وكل حرف، مع الوعي بالرقابة الإلهية وعواقبها الأخلاقية.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

في كتاب «گلستان سعدي» يُروى أن ملكًا كان مشهورًا بعدله وإنصافه، ولكن شاعت في مملكته أخبار كاذبة عن وزيره بأنه يتعاون سرًا مع الأعداء. سارع الناس بنشر هذه الأخبار، دون تحقيق، في الشوارع والأسواق، وكل يوم كانوا يزيدون من أبعادها. وقع الوزير البريء تحت الشبهة أمام الملك وتم عزله من منصبه. ذات يوم، قال درويش حكيم كان على علم بهذا الظلم للملك: «أيها الملك، اعلم أن الكذب كالنار؛ إذا سقطت شرارة منها على أرواح الناس، أحرقت كل شيء، وأتت على اليابس والأخضر معًا. واللسان الذي ينشر الأخبار الباطلة، كخنجر يطعن خفية». عند سماع هذه الكلمات، بدأ الملك بالتحقيق، واتضحت الحقيقة أن الوزير كان مظلومًا. ندم الملك على فعله وأعاد الوزير إلى منصبه، وأمر الناس ألا ينشروا أي خبر دون تحقق، فإن «ما يصل إلى الأذن من الفم ليس كله حقًا؛ والحقيقة أحيانًا تكمن في الصمت، لا في ضجيج الأكاذيب». هذه القصة تذكرنا أنه في عالمنا المليء بالأخبار اليوم، يجب ألا نصدق وننشر ببساطة كل ما نسمعه أو نراه، فالكلمات، سواء كانت منطوقة أو مكتوبة، يمكن أن تلحق جروحًا أعمق من السيف بالآخرين، والمسؤولية تقع علينا.

الأسئلة ذات الصلة