يؤكد القرآن بشدة على الوفاء بالعهود والمواثيق على جميع المستويات، بما في ذلك مع الله وبين الناس. هذا المبدأ ليس فقط علامة على الإيمان والتقوى، بل هو حجر الزاوية في النظام الاجتماعي والثقة، وموجب للمساءلة يوم القيامة.
في القرآن الكريم، لا يمثل الوفاء بالعهود والمواثيق فضيلة أخلاقية فحسب، بل هو ركن أساسي من أركان الإيمان والتقوى الحقيقية. وقد أمر الله تعالى مراراً وتكراراً في آيات مختلفة المؤمنين بالوفاء بعهودهم وتجنب نقضها. وهذا التأكيد عميق وشامل لدرجة أن نقض العهد يعتبر من سمات المنافقين والذين انحرفوا عن طريق الحق، وقد ذكرت له عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة. يتناول القرآن العهود والمواثيق على مستويات متعددة؛ بدءاً من العهد مع الله، وصولاً إلى العهود الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحتى العهود والاتفاقيات الشخصية والفردية. من أهم أنواع العهود، العهد الذي يبرمه الإنسان مع الله. يشمل هذا العهد الإيمان بالتوحيد، وطاعة الأوامر الإلهية، والعبودية الخالصة. يقول الله تعالى في سورة البقرة الآية 177: "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ." هذه الآية تبين أن الوفاء بالعهد، إلى جانب الإيمان والأعمال الصالحة، هو من علامات التقوى وصدق الإيمان. وتشمل العهود الإلهية الأوامر والنواهي الإلهية التي يجب على الإنسان الالتزام بها وجعل العمل بها من أولويات حياته. بالإضافة إلى العهد مع الله، يؤكد القرآن بشدة على أهمية مراعاة العهود والعقود بين البشر. ويشمل ذلك العقود التجارية، وعقود الزواج، ومعاهدات السلام، وأي نوع آخر من الاتفاقيات المشروعة. في سورة المائدة الآية 1، يقول الله صراحة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ." تؤكد هذه الآية بشكل مطلق على ضرورة الوفاء بأي عقد مشروع وفي إطار القوانين الإلهية. يشكل هذا التأكيد أساس الثقة والنظام الاجتماعي. فإذا لم يلتزم الناس بعهودهم ومواثيقهم، سيسود الفوضى وانعدام الثقة في المجتمع، مما يؤدي إلى تدهور العلاقات الإنسانية وانهيار الهياكل الاجتماعية. وفي سورة النحل الآية 91، يقول الله: "وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ." هذه الآية لا تشدد على وجوب الوفاء بالعهد فحسب، بل تحذر أيضاً من أن الله شاهد ورقيب على أفعال البشر، ولا يخفى عليه أي نقض للعهد. توفر هذه المراقبة الإلهية دافعاً قوياً للأفراد ليكونوا صادقين في الوفاء بالتزاماتهم. إن نقض العهد ليس مجرد انتهاك لاتفاق بشري، بل هو في الحقيقة تجاهل لشهادة الله ومخالفة لأمره. تعتبر الآية 34 من سورة الإسراء أيضاً آية رئيسية في هذا السياق: "...وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا." هذه الآية تنص صراحة على أن الوفاء بالعهد مسؤولية عظيمة سيسأل عنها يوم القيامة. وهذا يعني أن كل عهد يبرمه الإنسان، سواء كان صغيراً أم كبيراً، فردياً أم جماعياً، يسجل في صحيفة أعماله ويجب أن يكون مسؤولاً عنه أمام الله. يضيف هذا الجانب من تأكيد القرآن إلى المسؤولية الأخلاقية والنفسية للبشر، ويمنعهم من التهرب من المسؤوليات بسبب الإهمال أو المصلحة الشخصية. يعتبر القرآن الكريم نقض العهود سبباً للفساد والفوضى في الأرض، ويذم بشدة أولئك الذين ينقضون اتفاقياتهم. في سورة الرعد الآيتين 20 و 21، يصف الله المؤمنين الصادقين بأنهم "الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ" و "وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ." في المقابل، يُعرف الفاسقون الذين ينقضون العهود بأنهم سبب الفساد في الأرض. هذه الآيات تبين بوضوح أن مراعاة العهد والميثاق ليست مجرد عمل فردي، بل لها أبعاد واسعة في سلامة المجتمع وحفظ العدالة والنظام العام. الوفاء بالعهد علامة على الإيمان القوي، والأخلاق الحميدة، والتربية الإلهية، ويؤدي إلى السلامة والثقة واستقرار العلاقات الإنسانية. في النهاية، الالتزام بهذه الأوامر الإلهية لا يجلب السعادة الدنيوية فحسب، بل يمهد الطريق للخلاص في الآخرة أيضاً. بشكل عام، تأكيد القرآن على الوفاء بالعهد والميثاق هو أمر شامل ومتعدد الأوجه يشمل الأبعاد الاعتقادية والأخلاقية والاجتماعية وحتى القانونية. وهذا يدل على الأهمية الكبيرة التي يوليها الإسلام لإقامة العدل والنظام والثقة في المجتمع الإنساني. فالوفاء بالعهود علامة على الصدق وصدق الإيمان، ونقض العهود علامة على ضعف الإيمان والنفاق. توجه هذه التعاليم المجتمعات الإسلامية نحو بناء هياكل قائمة على الثقة والتعاون والمسؤولية، وتشجع الأفراد على إعطاء الأولوية للمبادئ الأخلاقية والإلهية في تعاملاتهم لتجنب أي شكل من أشكال الغدر أو الخيانة. لا يقتصر هذا الأمر على العقود الكبيرة، بل يشمل أيضاً الوعود والاتفاقيات اليومية الصغيرة؛ لأن أي انتهاك للعهد، مهما كان تافهاً، يضعف تدريجياً أساس الثقة ويقلل من أهمية هذا المبدأ الحيوي.
يروى أن في الأزمنة الغابرة، كان هناك تاجر يُدعى فريدون، اشتهر بصدقه وأمانته. كان قد أبرم اتفاقاً مع رجل من مدينة أخرى، يقضي بتسليم بضاعة معينة بسعر محدد في موعد مقرر. في أثناء الطريق، ازدهرت سوق تلك البضاعة فجأة وتضاعف سعرها عدة مرات. شجع أصدقاء فريدون وزملاؤه على بيع البضاعة بسعر السوق الحالي، وجني أرباح طائلة، متجاهلين وعده. لكن فريدون، الذي كانت تعاليم القرآن وحكمة سعدي في قلبه، أجاب بابتسامة: "ربح الدنيا زائل، وراحة البال أفضل بكثير. كيف لي أن أنقض عهداً قد أبرمته، والله شهيد وسأُسأل يوماً ما؟ لقد أحسن سعدي القول: 'أوف بالعهد والقول فإن المرء يرقى بالعهود والأقوال'." التزم فريدون بعهده وسلم البضاعة للعميل بالسعر المتفق عليه. لم يثنِ هذا العمل العميل على وفائه فحسب، بل جعله يجري جميع تعاملاته المستقبلية مع فريدون، وكان يذكره دائماً كمثال للصدق والأمانة. وهكذا، لم يحصل فريدون على مكاسب مادية أكبر فحسب، بل نال أيضاً مصداقية لا مثيل لها وسلاماً داخلياً، فاقت ديمومته أي ثروة عابرة.