ينهى القرآن الكريم بشدة عن التشهير ونشر الشائعات، مؤكداً على ضرورة التحقق وتجنب الظن والتجسس، ويعتبرهما سببين للفساد الاجتماعي ويستوجبان عذاباً أليماً. حادثة الإفك وتشبيه الغيبة بأكل لحم الأخ الميت، من ضمن التحذيرات القرآنية في هذا الصدد.
القرآن الكريم، بصفته كتاب هداية إلهية، يتناول قضايا الأخلاق والمجتمع بالتفصيل، ويقدم إرشادات واضحة للحفاظ على سلامة المجتمع وهدوئه. من القضايا الهامة التي ينهى عنها القرآن بشدة ويحذر من عواقبها الوخيمة هي تهمة التشهير ونشر الشائعات. هاتان الفعلان تعتبران من الأسباب الرئيسية للفساد الاجتماعي، وخلق الكراهية والعداوة، وتدمير سمعة الأفراد. القرآن، من خلال آيات عديدة وبلهجة حاسمة، يمنع المؤمنين من الوقوع في فخ هذه الذنوب الكبيرة، ويقدم حلولاً عملية لمواجهتها. النهي عن التشهير ونشر الشائعات في القرآن يتم دراسته من أبعاد مختلفة. أول وأبرز مثال هو حادثة الإفك التي تم ذكرها بالتفصيل في سورة النور. في هذه السورة، يوبخ الله تعالى بشدة أولئك الذين قاموا بنشر الأكاذيب والاتهامات الباطلة ضد زوجة النبي (صلى الله عليه وسلم)، ويحذرهم من العواقب الدنيوية والأخروية لهذا الفعل. تقول الآية 11 من سورة النور: "إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ". هذه الآية تبين أن نشر الشائعات والبهتان ليس مجرد ذنب فردي، بل يمكن أن يؤدي إلى عذاب إلهي عظيم، وقد يكون ظاهرياً خيراً لاختبار المؤمنين. وفي سياق الآيات، تقول الآية 19 من نفس السورة: "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ". هذه الآية توضح بجلاء أن مجرد الرغبة في إشاعة الفاحشة والشائعات يعتبر ذنباً كبيراً ويستوجب عقاباً دنيوياً وأخروياً. هذا يدل على عمق اهتمام القرآن بالحفاظ على كرامة الأفراد وسمعتهم ومنع انتشار أي فساد أخلاقي أو اجتماعي. من الحلول القرآنية الأخرى لمكافحة نشر الشائعات، التأكيد على ضرورة التحقيق والتحقق من صحة الأخبار. في سورة الحجرات، الآية 6، يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ". هذه الآية تعتبر قاعدة أساسية وذهبية في التعاملات الاجتماعية والإعلامية المعاصرة. قبل نشر أي خبر أو شائعة، يجب على المؤمن أن يتأكد من صحتها وألا يتصرف بناءً على التخمين أو أقوال أشخاص مجهولين. العمل بهذه الآية يمكن أن يشكل سداً قوياً أمام سيل الشائعات والمعلومات الخاطئة. بالإضافة إلى ذلك، ينهى القرآن بشدة عن الغيبة والتجسس، وهما بحد ذاتهما يمهدان للتهمة ونشر الشائعات. في سورة الحجرات، الآية 12، يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ". هذه الآية تشبه الغيبة بأكل لحم الأخ الميت، وهو تشبيه مؤثر جداً يثير أقصى درجات الاشمئزاز والدنس. الغيبة والتجسس عادة ما تكونان مقدمة لتكوين الشائعات والاتهامات الباطلة، لأن الفرد من خلال التجسس على أمور الآخرين يسعى لإيجاد عيوب قد يبالغ فيها وينشرها كشائعة. لذلك، ينهي القرآن عن هذين الفعلين ليقطع دابر نشر الشائعات من الأساس. كما يؤكد القرآن على أهمية حفظ اللسان والتحدث فقط بناءً على العلم واليقين. في سورة الإسراء، الآية 36، يقول: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا". هذه الآية تحدد مبدأً عاماً حول سلوك الإنسان فيما يتعلق بالمعلومات. أي قول أو حكم يصدر دون علم أو دليل مبرر، يكون مسؤولاً عنه أمام الله. ويشمل هذا نشر أي خبر أو شائعة لا يكون الفرد متأكداً من صحتها، وينقلها فقط بناءً على التخمين أو التقليد من الآخرين. هذه الأقوال يمكن أن تؤدي بسهولة إلى التهمة والافتراء، وتدمر حياة الأفراد. خلاصة القول، القرآن الكريم من خلال آيات متعددة وبالتأكيد على المبادئ الأخلاقية والاجتماعية، ينهى عن التشهير ونشر الشائعات بشكل شامل وكامل. هذا النهي ليس مجرد منع جاف، بل بتوضيح الأسباب المنطقية، والتشبيهات البليغة، والتحذير من العواقب الدنيوية والأخروية، يسلط الضوء على أهمية هذا الموضوع في أذهان المؤمنين. التأكيد على التحقيق والتبين، والاجتناب عن الظن والتجسس، والابتعاد عن الغيبة، والمسؤولية عما يتفوه به اللسان، هي من أهم الحلول القرآنية لإقامة مجتمع سليم، قائم على الثقة والاحترام المتبادل، وبعيد عن أي فساد أخلاقي واجتماعي. العمل بهذه التعاليم لا يساعد فقط في حفظ كرامة الأفراد، بل يمهد أيضاً لتماسك المجتمع ونموه الروحي الفردي.
يُروى في گلستان سعدي أن أحد الحكماء كان جالساً بين جماعة. بدأ أحد الحاضرين بالغيبة والنميمة عن شخص آخر. نظر الحكيم إليه بهدوء وقال: "يا صديقي، إذا كان في بيتك جدار مائل وتريد أن تعدله، فابدأ بنفسك أولاً. كيف تنتقد عيوب الآخرين بينما بيتك يحتاج إلى ترميم؟" ثم أضاف: "من يرى عيوبه ويسعى لإصلاحها، لن يجد فرصة للغيبة ونشر الشائعات عن الآخرين." تذكرنا هذه القصة الدافئة أن التشهير ونشر الشائعات ينبعان من الغرور والغفلة عن عيوب الذات، وأنه يجب تجفيف جذور هذه الذنوب من خلال تزكية النفس والتركيز على إصلاحها.