يرى القرآن الحياء والعفة كركائز أساسية لرفاهية الفرد والمجتمع. تشمل هذه الفضائل ضبط النفس في النظر والكلام والسلوك لكل من الرجال والنساء، بهدف بناء مجتمع نقي وكريم.
في تعاليم القرآن الكريم الغنية والعميقة، يُعتبر الحياء والعفة من أسمى القيم الأخلاقية والروحية، وقد تم التأكيد عليهما باستمرار من أجل رفاهية الفرد والمجتمع. يوصي القرآن بهاتين الفضيلتين ليس فقط كصفات حميدة، بل كركائز أساسية لمجتمع سليم ومليء بالإيمان، لكل من الرجال والنساء. الحياء يعني الخجل والحشمة أمام الله والناس، وكبح النفس عن القبائح. أما العفة فتعني الطهارة والعصمة عن الشهوات والوساوس النفسية. هذان المفهومان، كجناحين للوصول إلى قمم التقوى والكمال البشري، يكملان بعضهما البعض، وقد تناول القرآن أبعادهما المختلفة بدقة لا مثيل لها. يتناول القرآن الكريم أولاً أهمية غض البصر لكل من الرجال والنساء. في سورة النور، الآية 30، يُؤمر الرجال المؤمنون بغض أبصارهم وحفظ فروجهم: «قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ». هذه الآية تبين بوضوح أن غض البصر عامل للنقاء والنمو الروحي. ثم في الآية 31 من السورة نفسها، تمتد هذه التوصية إلى النساء المؤمنات: «وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ». هذه الآيات لا تشير فقط إلى حفظ البصر، بل تؤكد على حفظ الفروج، مما يدعم العفة وتجنب العلاقات غير الشرعية. هذا المنظور القرآني للحياء والعفة هو منظور متوازن وشامل، يخاطب الجنسين ويضع على عاتق كليهما مسؤولية الحفاظ على الحدود. العفة لا تقتصر على الطهارة الجنسية فحسب، بل تشمل الامتناع عن أي شكل من أشكال الإفراط والخطايا. في سورة الإسراء، الآية 32، ينهى الله صراحة عن الاقتراب من الزنا: «وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا». هذه الآية لا تحرم الزنا فحسب، بل تمنع حتى الاقتراب من عوامله ومقدماته، لأنها ترى أن طريق الخطيئة طريق سيء ومذموم. هذا يدل على أن الإسلام يولي أهمية كبيرة للوقاية من أجل الحفاظ على الحياء والعفة، ويغلق الطرق التي قد تؤدي إلى الفساد. علاوة على ذلك، يولي القرآن اهتماماً خاصاً للحياء في القول والسلوك. في سورة الأحزاب، الآية 32، يُنصح زوجات النبي، وعموم النساء المؤمنات، بعدم التحدث بلين وميوعة، حتى لا يطمع الذين في قلوبهم مرض: «فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا». هذا يظهر أن الحياء والعفة يجب أن يراعيا ليس فقط في اللباس والنظر، بل أيضاً في طريقة التفاعلات اللفظية والاجتماعية. هذا التعليم مهم جداً؛ لأن الكلام غير اللائق يمكن أن يكون باباً نحو الفساد الأخلاقي. في المقابل، القول الطيب والمحترم يساعد على الحفاظ على كرامة الفرد والمجتمع. أحد الأمثلة الجميلة للحياء في القرآن هو قصة بنات شعيب (عليه السلام)، المذكورة في سورة القصص، الآية 25. عندما جاءت إحدى بنات شعيب لدعوة موسى (عليه السلام)، يصفها القرآن بأنها «تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ» (تمشي على استحياء). هذا الوصف يشير إلى قيمة ومكانة الحياء كصفة بارزة ومحمودة للنساء. الحياء هنا لا يعني الضعف أو الانعزال، بل يعني الرزانة والوقار والحفاظ على كرامة النفس في مواجهة الأجانب. تقدم هذه الآية صورة جميلة لامرأة فاضلة من منظور قرآني، تحافظ على وقارها وحيائها أثناء أداء واجبها. كذلك، يؤكد القرآن في وصف الزوجات الصالحات للمؤمنين على صفة العفة والطهارة. في سورة النساء، الآية 25، يُسمح للرجال بالزواج من النساء الحرائر والعفيفات، حتى لو كن إماء، بشرط أن يكن «محصنات»، أي عفيفات طاهرات. هذا يدل على أن العفة هي أحد المعايير الأساسية لاختيار الزوجة وتكوين أسرة تقوم على القيم الإلهية. يعتقد القرآن أن المجتمع الذي يقوم أساسه على أسر طاهرة وعفيفة سيكون مجتمعًا أكثر صحة وازدهارًا. في الختام، توجيهات القرآن بشأن الحياء والعفة تقدم إطارًا شاملاً للبناء الفردي والاجتماعي. تساعد هذه الفضائل الإنسان على البقاء بمنأى عن النفس الأمارة بالسوء والوساوس الشيطانية، والعيش حياة مليئة بالهدوء والكرامة. الحياء والعفة ليسا مجرد قيود؛ بل هما حراس يمنعان الإنسان من السقوط في هوة الذنوب والأضرار الروحية والجسدية. هذه التعاليم تدفع أفراد المجتمع إلى التعامل مع بعضهم البعض باحترام متبادل، وتوفر بيئة آمنة وصحية للنمو الروحي والأخلاقي. يطلب منا القرآن أن نجعل الحياء والعفة مبدأنا في جميع جوانب الحياة، من النظر والكلام إلى اللباس والسلوك، لنزدهر في الدنيا والآخرة. هذه الأوامر ليست للتضييق، بل لرفع الإنسان إلى مقام عالٍ يليق بخلافة الله.
يُروى أن الشيخ السعدي، في كتابه كُلستان، روى ذات يوم: «كان لرجل من الكبار ابنة في غاية الجمال والحياء والعفة. فتقدم لخطبتها رجل ذو شأن ومن عائلة كريمة. فقال الأب، وهو رجل حكيم، لابنته: يا ابنتي، هذا الرجل حسن الظاهر وذو سمعة طيبة، ولكن ماذا تعرفين عن سيرته؟ فأجابت الابنة: يا أبي، إن كانت السيرة الحسنة والفضائل موجودة فيّ، فمن يطلب يدي للزواج لن يسلك إلا طريق العفة، ومن يتحلى بالحياء يحفظ شرفه بنفسه.» ويستخلص السعدي من هذه الحكاية أن الحياء والعفة ينبعان من الداخل، وهما حارسان للإنسان من القبح، ويساعدان الإنسان على معرفة الطريق الصحيح والثبات عليه، حتى لو لم يره الآخرون.