كيف يتحدث القرآن عن العدل في القضاء؟

يؤكد القرآن على العدل المطلق في القضاء، والحياد التام حتى تجاه الذات والأعداء، ويحظر أي فساد كالرشوة. هذه المبادئ هي أساس مجتمع عادل قائم على التقوى، ويتوجب على القاضي أن يحكم بناءً على البينة والمعرفة الكافية.

إجابة القرآن

كيف يتحدث القرآن عن العدل في القضاء؟

يولي القرآن الكريم، بصفته كتاب هداية إلهية، أهمية قصوى لمفهوم العدل، ولا سيما العدل في القضاء. هذا ليس مجرد توجيه أخلاقي، بل هو العمود الفقري لمجتمع صحي ومستقر. من منظور قرآني، العدل هو جوهر علاقة الإنسان بالله وبالإنسانية جمعاء. الله سبحانه وتعالى هو العادل، ويتوقع من عباده أن يلتزموا بالعدل في جميع شؤون حياتهم، خاصة في منصب القضاء والتحكيم. هذا المفهوم يتجاوز مجرد تسوية النزاعات القانونية؛ فهو يشمل أي عملية اتخاذ قرار أو تقييم تؤثر على حياة الآخرين. إن تركيز القرآن على العدل في القضاء ينبع من فهم أن غياب العدل في المجتمع يؤدي إلى بذر الظلم والقهر، مما يزيل السلام والأمان. في المنظور الإسلامي، القاضي ليس مجرد منفذ للقانون، بل هو ممثل للعدالة الإلهية على الأرض، وعليه أن يؤدي واجبه بدقة ومسؤولية كاملة. من أهم المبادئ الأساسية للعدل في القضاء التي يؤكد عليها القرآن الكريم هو مبدأ الحياد المطلق. يجب ألا يتأثر القاضي أو الحكم، بغض النظر عن موقعه، بالمشاعر الشخصية، أو المصالح العائلية، أو الصداقات، أو العداوات. هذا المبدأ مذكور بوضوح في عدة آيات. ففي الآية 135 من سورة النساء، يقول الله تعالى بوضوح: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا». هذه الآية تدعو المؤمنين إلى الثبات على العدل والشهادة لله، حتى لو كانت ضد أنفسهم، أو والديهم، أو أقاربهم. هذا توجيه لا مثيل له للقاضي ولأي شخص في موقع الحكم؛ إنه يعني تقديم المصلحة الإلهية وتنفيذ الحق على أي مصلحة شخصية أو جماعية. ويشير التأكيد على أن «اللَّهَ أَوْلَىٰ بِهِمَا» (الغني والفقير) إلى أن ثراء أو فقر الأطراف يجب ألا يؤثر على الحكم، ويجب التعامل مع كلاهما بنفس المنظور. علاوة على ذلك، يطالب القرآن المسلمين حتى بالعدل تجاه أعدائهم، وهو ما يمثل قمة الحياد والإنصاف. في الآية 8 من سورة المائدة، نقرأ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ». هذه الآية توضح بجلاء أن البغضاء والعداوة تجاه مجموعة معينة يجب ألا تمنع من مراعاة العدل. هذا المستوى من العدل، الذي يشمل الحياد حتى تجاه الخصوم، هو مبدأ أخلاقي سامٍ وصعب للغاية، ولا يتحقق إلا في ظل التقوى وخشية الله. الهدف النهائي هو تحقيق التقوى، لأن ممارسة العدل هي أقرب الطرق إليها. هذا يدل على أن العدل ليس مجرد أمر خارجي، بل هو فضيلة داخلية تنبع من الإيمان. كما يولي القرآن أهمية كبيرة للدقة في المسائل القضائية. يجب على القاضي أن يصدر أحكامه بناءً على بينات وأدلة قوية، وليس على الظن أو الشائعات. كما أن مبدأ المساواة أمام القانون وفي المحكمة القضائية هو من المبادئ الأساسية الأخرى. يجب أن يعامل جميع الأفراد، بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية أو عرقهم أو ثرائهم، باحترام متساوٍ وعناية متساوية. ويُحظر تمامًا الرشوة وأي شكل من أشكال الفساد في النظام القضائي، لأن هذه الأفعال لا تقوض العدالة فحسب، بل تدمر أساس الثقة العامة وتؤجج الظلم. تحذر الآية 188 من سورة البقرة: «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ». هذه الآية تؤكد حقيقة أن أكل أموال الناس بغير حق، عن طريق رشوة الحكام للحصول على مكاسب غير مشروعة، هو ذنب عظيم ويهدم العدل تماماً. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يمتلك القاضي معرفة كافية وأن يتصرف بحكمة وبصيرة في اتخاذ قراراته. يحظر التسرع في الحكم، ويجب مراعاة جميع جوانب المسألة، والقيام بالتحقيق الكافي. ينصح القرآن المسلمين باللجوء أولاً إلى الصلح والتسوية في النزاعات، ولكن إذا تعذر ذلك، فيجب إصدار حكم عادل بناءً على الشريعة والمبادئ القرآنية. الهدف النهائي من تأكيد القرآن على العدل في القضاء هو إقامة مجتمع منظم، آمن، يسوده الثقة المتبادلة، حيث تُحفظ حقوق جميع الأفراد وتُجتث جذور الظلم والقهر. العدل في القضاء هو تجلٍ لاسم «العدل» من أسماء الله الحسنى على الأرض، وتطبيقه يجلب الرضا الإلهي والسعادة الدنيوية والأخروية. هذا لا يعني مجرد القضاء في المحاكم، بل ينطبق على أي قرار يؤثر على أفراد آخرين، من القرارات العائلية إلى الاقتصادية، وكلها يجب أن تستند إلى العدل والإنصاف. بعبارة أخرى، العدل في القضاء مبدأ شامل يغطي جميع جوانب الحياة الفردية والاجتماعية، ويضمن كرامة الإنسان والحقوق المتبادلة. الالتزام بهذه المبادئ لا يساعد فقط على تحقيق العدالة الفردية، بل يقوي أسس المجتمع ويمهد الطريق للنمو الروحي والمادي. ويؤكد القرآن على أن تطبيق العدل، حتى لو كان مراً، يجب أن يتم لمنع الفساد وضمان حصول الأفراد على حقوقهم. يتطلب هذا الأمر شجاعة أخلاقية وتقوى عميقة حتى يتمكن القاضي، بعيداً عن أي ضغوط خارجية أو ميول داخلية، من النظر فقط إلى رضا الله وتطبيق الحق. في الختام، العدل في القضاء هو الأساس الذي يُبنى عليه صرح مجتمع إسلامي عادل ومتوازن، مجتمع ينال فيه كل فرد حقه ولا يُظلم فيه أحد.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

في سالف العصور، كان هناك ملك عادل في أرض ذاع صيته بالعدل في المشرق والمغرب. في أحد الأيام، جاء رجلان إلى بلاطه لتقديم شكوى. أحدهما كان ثريًا وذا مكانة، والآخر كان رجلاً فقيراً وحيداً. أمر الملك قاضي المدينة بالنظر في قضيتهما. القاضي، الذي تربى في مدرسة العدل الملكية، استمع بعناية إلى أقوال الرجلين ووزن حججهما. ورغم أن الرجل الثري حاول التضليل وتقديم الرشوة، إلا أن القاضي، دون أي تردد في قلبه، وبتذكر الآيات الإلهية التي تنهى عن الرشوة وتأمر بالعدل، حكم لصالح الرجل الفقير بناءً على الحق. غضب الرجل الثري من هذا الحكم، لكن الملك قال: "قاضينا لا ينظر إلا إلى ميزان العدل والأمر الإلهي. إنه يعلم أن الحكم الحقيقي هو الله، وفي محضره لا قيمة لثروة." استقرت هذه القصة في القلوب، وعلم الناس أن في هذه الأرض، العدل غالب على كل شيء، وحق المظلوم يجلس دائماً على عرشه.

الأسئلة ذات الصلة