هل كل نوع من النجاح ذو قيمة؟

من المنظور القرآني، النجاح الحقيقي لا يكمن في الثروة أو السلطة، بل في العبودية الصادقة، التقوى، والأعمال الصالحة المدخرة للآخرة، والتي تجلب السلام الدائم.

إجابة القرآن

هل كل نوع من النجاح ذو قيمة؟

للوهلة الأولى، قد تستدعي كلمة "النجاح" صوراً للثروة الهائلة، الشهرة الواسعة، القوة السياسية، أو تحقيق مكانة اجتماعية رفيعة. غالباً ما يعتبر المجتمع هذه المعايير مؤشرات أساسية للنجاح، ويكرس الكثير من الأفراد حياتهم كلها لتحقيقها. ولكن هل كل نوع من النجاح، بأي وسيلة وبأي هدف يتم تحقيقه، له قيمة حقيقية ويستحق الثناء من منظور القرآن الكريم؟ الإجابة القاطعة للقرآن على هذا السؤال هي "لا". يقدم القرآن الكريم إطاراً قيمياً شاملاً يرى النجاح الحقيقي أبعد من الإنجازات المادية والزائلة في الدنيا، ويربطه بمعايير أخلاقية، روحية، وإلهية. يميز القرآن بوضوح بين النجاحات الدنيوية الظاهرية والخلاص الحقيقي الدائم في الآخرة. فالعديد من الإنجازات الدنيوية، مثل المال والبنين، يوصفون في القرآن بأنهم "زينة الحياة الدنيا". يقول الله تعالى في سورة الكهف، الآية 46: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا» أي "المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات (وهي الأعمال التي تبقى للإنسان ثوابها كالعبادات والأعمال الصالحة) خيرٌ ثوابًا عند ربك، وخيرٌ مرجعًا ومآلاً". هذه الآية توضح بجلاء أنه على الرغم من أن المال والبنين يمكن أن يكونا من نعم الله ويُعتبران جزءًا من "النجاح" الدنيوي، إلا أن القيمة الحقيقية والدائمة تكمن في الأعمال الصالحة التي يدخرها الإنسان لآخرته. هذه الأعمال الصالحة هي التي تبقى ولها أجر حقيقي عند الله. فالنجاحات الدنيوية، مهما بدت مبهرة، مؤقتة وزائلة؛ فهي لا تزول فقط بالموت، بل قد تُفقد خلال حياة الإنسان أو تتحول إلى مصدر للقلق والفساد بدلاً من السلام. القرآن الكريم يحدد الفلاح الحقيقي لا في جمع الثروات أو اكتساب السلطة بأي ثمن، بل في القرب من الله، وتزكية النفس، وفعل الخيرات، واتباع الأوامر الإلهية. الكلمات مثل "الفلاح" و "الفوز" تستخدم في القرآن لوصف هذا النجاح الحقيقي. على سبيل المثال، في بداية سورة المؤمنون، يذكر الله تعالى معايير فلاح المؤمنين: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿١﴾ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾» أي "لقد فاز المؤمنون وسعدوا كل السعادة، وهم الذين إذا أدوا صلاتهم أدَّوْها على وجه الخشوع، بقلوبهم وأبدانهم". وتستمر السورة في ذكر أن الفائزين هم الذين يتجنبون اللغو والباطل، ويؤتون الزكاة، ويحفظون فروجهم، ويرعون أماناتهم وعهودهم، ويحافظون على صلواتهم. تعلمنا هذه الآيات أن النجاح الحقيقي يكمن في العبودية الخالصة، الصدق، العفة، المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية، والحفاظ على الصلة الروحية بالخالق. مثل هذا النجاح يجلب السكينة الداخلية والرضا الإلهي، والذي لا يمكن مقارنته بأي قدر من ثروات الدنيا. بالإضافة إلى ذلك، في سورة النور، الآية 52، ورد بوضوح: «وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ» أي "ومن يطع الله ورسوله، ويخشَ الله في كل أمره، ويتقه في جميع أحواله، فأولئك هم الفائزون بالسعادة في الدنيا والآخرة". تقدم هذه الآية معادلة واضحة: طريق النجاح الحقيقي يمر عبر الطاعة المطلقة لله ورسوله، وكذلك من خلال الخشية من مقام الله والتحلي بالتقوى. النجاح من هذا المنظور هو عملية داخلية ومستدامة، حيث يتقدم الفرد في طريق العبودية، وكل خطوة يتخذها لكسب رضا الله تقربه من الفلاح. لذلك، النجاح الذي يُبنى على الظلم، الكذب، الخداع، استغلال الآخرين، أو إهمال الحقوق الإلهية والإنسانية، مهما بدا لامعًا وعابرًا، لا قيمة له في نظر القرآن؛ بل يؤدي إلى الخسارة والضياع الأبدي. يوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة بشكل جلي من خلال قصص مثل قصة فرعون وقارون. فرعون كان رمزًا للقوة والسلطة الدنيوية، ووصل إلى قمة النجاح الظاهري، لكن كبره وظلمه قاداه إلى الهلاك ووضعه ضمن الخاسرين. قارون، بدوره، كان رمزًا للثروة اللامتناهية، ولكن بسبب غروره وبخله، وعدم استخدامه لنعم الله بالشكل الصحيح، ابتلعته الأرض بكل ثرواته، ليصبح عبرة للبشرية. تعلمنا هذه القصص أن النجاحات التي تُكتسب بالكبر والطغيان ضد الله، أو بتجاوز حقوق الناس، ليست فقط عديمة القيمة، بل لها عواقب وخيمة ومؤلمة في الدنيا والآخرة. ومع ذلك، هذا لا يعني أن الإسلام يرفض تحقيق النجاحات الدنيوية. بل على العكس، يشجع القرآن المؤمنين على السعي لكسب الرزق الحلال والتقدم في الحياة الدنيا، ولكن يجب أن يكون هذا السعي دائمًا ضمن إطار الحلال وبنية صالحة، ويجب ألا ينسى الإنسان أبدًا هدفه الأساسي والنهائي، وهو رضا الله وتحقيق السعادة الأخروية. في الواقع، يصبح النجاح الدنيوي ذا قيمة عندما يكون وسيلة لتحقيق أهداف إلهية وإنسانية أسمى؛ على سبيل المثال، اكتساب الثروة لمساعدة المحتاجين، إقامة العدل، أو نشر العلم والمعرفة. يتحقق النجاح الحقيقي عندما يرى الفرد بذكاء أن الدنيا هي مزرعة للآخرة ويستغل نعمها بما يتماشى مع الأهداف الإلهية. وبخلاف ذلك، إذا أدى النجاح فقط إلى جمع المال أو الشهرة بدون مراعاة المبادئ الأخلاقية والدينية، فإنه ليس فقط عديم القيمة، بل قد يؤدي في النهاية إلى الخسارة والضياع. الخلاصة هي أن القيمة الحقيقية للنجاح لا تكمن في كمية الإنجازات، بل في جودتها، وكيفية تحقيقها، وتأثيرها على سعادة الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

كان هناك ذات يوم تاجر ثري نجح في تجارته حتى ذاع صيته، وفاضت خزائنه بما لا يحصى. كان يعيش في قصر فخم، وكل ما يشتهيه كان في متناول يده. ومع ذلك، لم يجد قلبه راحة، وفي الليل، كان الخوف من فقدان ما يملك يمنع النوم عن عينيه. في نفس المدينة، في زاوية مجهولة، عاش درويش لا يملك سوى عباءة بسيطة وكأس للماء. كان يقضي كل يوم في ذكر الله وخدمة الناس. اشتكى الرجل الثري لصديقه من حالته المضطربة قائلاً: "كل هذا النجاح لم يجلب لي الراحة؛ بل أصبح عبئاً." فأجابه صديقه: "النجاح الحقيقي هو سلام القلب ورضا النفس، وليس كنزاً يسبب القلق. اذهب وتعلم من ذلك الدرويش الذي، على الرغم من فقره، يملك أغنى قلب." أدرك الرجل الثري حينها أن ما كان يعتبره نجاحاً لم يكن سوى سراب زائل، وأن القيمة الحقيقية تكمن في القناعة والاتصال بالله.

الأسئلة ذات الصلة