هل مسامحة الآخرين واجبة دائماً؟

المسامحة في القرآن فضيلة عظيمة ومُشجَّع عليها بشدة ولها أجر إلهي، لكنها ليست واجبة دائماً وبشكل مطلق. حق المطالبة بالعدل موجود إلى جانبها، ويجب أن تؤدي المسامحة إلى الإصلاح وعدم تشجيع الظلم.

إجابة القرآن

هل مسامحة الآخرين واجبة دائماً؟

في التعاليم العميقة والغنية للقرآن الكريم، يحظى موضوع المسامحة والعفو والصفح عن أخطاء الآخرين بمكانة رفيعة وعالية جداً. يدعو القرآن المؤمنين إلى هذه الفضيلة الأخلاقية العظيمة ويقدمها كواحدة من علامات التقوى والإحسان ونبل النفس. ولكن هل هذه المسامحة واجبة دائماً وفي كل الظروف، أم أنها تأتي مع شروط واعتبارات؟ لفهم هذا الموضوع بدقة، من الضروري الرجوع إلى عدة آيات ومفاهيم أساسية في القرآن. يشير القرآن صراحة في العديد من الآيات إلى فضيلة المسامحة ويحث المؤمنين عليها. على سبيل المثال، في سورة آل عمران، الآية 134، يصف الله المتقين بقوله: "الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (الذين ينفقون أموالهم في العسر واليسر، والذين يكتمون غيظهم ولا يظهرونه مع القدرة على إيقاع الأذى بمن أغضبهم، والذين يتجاوزون عن ظلم الناس لهم. والله يحب المتصفين بهذه الصفات). هذه الآية تبين بوضوح أن العفو والصفح من أبرز صفات المتقين والمحسنين، وأنهم محبوبون لدى الله. وفي سورة النور، الآية 22، يقول الله تعالى بخصوص من ظلموا: "وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (ولا يحلف أصحاب الفضل والسعة منكم ألا ينفقوا على قراباتهم والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وليعفوا عنهم ويتجاوزوا عن إساءاتهم. ألا تحبون أن يغفر الله لكم ذنوبكم؟ والله غفور لما بدر من عباده، رحيم بهم). هذه الآية نزلت تحديداً في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، الذي حلف ألا يعطي مسطحاً بعد حادثة الإفك. يحثه الله على العفو والصفح ويربط هذا العفو بالمغفرة الإلهية. هذا يدل على القيمة الاستثنائية للمسامحة في المنظور الإلهي. ومع ذلك، يجب الانتباه إلى أنه بجانب التوصية بالمسامحة، يؤكد القرآن الكريم بشدة على مبدأ العدل وإحقاق الحقوق. الإسلام دين العدل، ولا يوصي أبداً بالتنازل المطلق عن الحق حيثما يؤدي ذلك إلى ظلم أكبر أو فساد. الآيات المفتاحية في هذا السياق هي الآيات 40 إلى 43 من سورة الشورى: "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَن عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿٤٠﴾ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ﴿٤١﴾ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿٤٢﴾ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴿٤٣﴾" هذه الآيات تبين بوضوح أن: 1. جزاء السيئة يكون سيئة مثلها (مبدأ القصاص والمعاملة بالمثل في إطار العدل). 2. من عفا وأصلح (بمغفرته)، فأجره على الله. هذا يدل على أن العفو خيار اختياري يحمل أجراً عظيماً، وليس واجباً دائماً. 3. الذين ينتصرون بعد ظلمهم (أي يطالبون بحقهم أو ينتقمون بالعدل)، لا لوم عليهم. هذه الآية تعترف بوضوح بحق المظلوم في الدفاع عن نفسه والمطالبة بحقه. 4. اللوم والعقاب هو فقط على الذين يظلمون الناس ويطغون في الأرض بغير حق. 5. أما من صبر وغفر، فإن ذلك من الأمور التي تتطلب عزيمة وقوة إرادة. هذا يعني أن المسامحة فضيلة عظيمة، ولكنها تأتي إلى جانب حق المطالبة بالعدل. من هذه الآيات، يُفهم أن المسامحة، رغم أنها مؤكدة ومُشجَّع عليها بشدة وتحمل جزاءً أخروياً عظيماً، هي حق اختياري للفرد المظلوم، وليست واجباً مطلقاً ودائماً. إذا أدت المسامحة إلى تشجيع الظالم على التمادي في ظلمه، أو إلى ضياع حقوق الآخرين، أو إلى فوضى اجتماعية، فإن المسامحة في مثل هذه الحالات ليست واجبة فحسب، بل قد تتعارض مع مبادئ العدل الإسلامي. في الحالات التي تتعلق بحقوق الله (مثل الحدود الشرعية) أو حقوق الناس (الحقوق العامة للمجتمع)، عادة ما لا يجوز العفو من قبل فرد معين أو يكون محدوداً. على سبيل المثال، في الجرائم التي تؤدي إلى الإخلال بالنظام العام أو التي لها جانب حق الله، يعمل النظام القضائي الإسلامي على أساس العدل والحدود الإلهية، ومجرد عفو فرد متضرر لا يمكن أن يؤدي إلى تجاهل العقوبة الشرعية. أما في الحقوق الشخصية والخاصة، يمنح الإسلام الأفراد خياراً بين المطالبة بحقهم أو المسامحة والعفو. اختيار المسامحة في هذه الحالة هو علامة على الإيثار والتقوى ونبل الروح. كذلك، يجب الانتباه إلى النقطة الهامة وهي أن المسامحة الحقيقية يجب أن تكون مصحوبة بـ "الإصلاح". الآية "فَمَن عَفَا وَأَصْلَحَ" تبين أن المسامحة المثالية والموصى بها في القرآن هي تلك التي تؤدي إلى تحسين الوضع، وإصلاح العلاقات، ومنع تكرار الخطأ. إذا كانت المسامحة مجرد غض الطرف وتمهيداً لظلم أكبر، فقد يكون حكمتها موضع تساؤل. بناءً على آيات القرآن، يمكن القول إن المسامحة من الفضائل العالية جداً التي يدعو الله المؤمنين إليها، وقد رتب عليها أجراً عظيماً. إن هذا الفعل يدل على قوة النفس والتقوى والعطاء، ويؤدي إلى السكينة الداخلية والارتباط بالرحمة الإلهية. لكن المسامحة ليست واجباً مطلقاً دائماً. بل هي حق اختياري للفرد المظلوم، يمكنه استخدامه أو المطالبة بحقه. في الحالات التي تؤدي فيها المسامحة إلى هدر حقوق الآخرين، أو تشجيع الظالم على الاستمرار في ظلمه، أو تعريض النظام والعدالة الاجتماعية للخطر، فإنها ليست واجبة فحسب، بل قد تكون غير صحيحة. يقيم الإسلام توازناً دقيقاً بين العفو والعدل. الهدف النهائي هو إقامة العدل والخير في المجتمع، والمسامحة موصى بها ضمن إطار هذا الهدف. وبالتالي، بينما الروح العامة للتعاليم القرآنية تؤكد على المسامحة والتجاوز، فإن هذا التأكيد لا يعني واجباً لا يقبل الجدل في كل الظروف، بل يتم اتخاذ القرار بناءً على الظروف ونتائجها. هذا الاختيار يحمل أجراً عظيماً عند الله، وهو من "عزم الأمور" أي الأعمال التي تتطلب إرادة قوية وعزيمة راسخة. هذا التعبير نفسه يشير إلى أن المسامحة خيار أخلاقي وروحي، وليس بالضرورة فريضة واجبة دائماً.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يُروى أن ملكاً عادلاً سأل وزيره الحكيم ذات مرة: "ما هو الأهم في الحكم والسياسة؟" فأجاب الوزير: "العدل والرحمة. فالعدل عماد المملكة، والرحمة راحة الرعية." ثم سأل الملك: "ماذا تفعل إذا ظلمك أحد؟" فأجاب الوزير: "إذا كان ظلمه صغيراً، عفوت عنه، فالعفو من شيم الكرام. أما إذا كان ظلمه كبيراً ويمس حقوق الآخرين، رددته إلى العدل ليسترد صاحب الحق حقه ولا يفسد الأمر." ابتسم الملك وقال: "إن نُبلك يكمن في معرفتك أن العفو قد يكون حكمة في بعض الأحيان، وأن إقامة العدل قد تكون رحمة في أحيان أخرى." تعلمنا هذه الحكاية أن المسامحة، وإن كانت فضيلة عظيمة، إلا أنها تقف جنباً إلى جنب مع العدل والحكمة، وينبغي ألا تمنع إقامة الحق.

الأسئلة ذات الصلة