يصور القرآن الإنسان مخلوقًا بفطرة نقية وميل إلى الخير، لكنه وهبه أيضًا الإرادة الحرة والقدرة على الخطأ. لذا، فالإنسان ليس خيرًا محضًا بطبيعته ولا خطّاءً بالكامل، بل هو في صراع مستمر بين هذين الجانبين، وله حرية اختيار مساره.
لقد طرحت سؤالًا عميقًا وأساسيًا حول الطبيعة الوجودية للإنسان من منظور القرآن الكريم، وفهمه يعتبر مفتاحًا لفهم العديد من التعاليم الإسلامية. القرآن، بطريقة دقيقة وواقعية، لا يصور الإنسان على أنه خير الفطرة فحسب، ولا على أنه خطّاء بطبعه، بل يصفه ككائن ذي قدرات مزدوجة، وفي صراع دائم بين هذين الجانبين. في البداية، يؤكد القرآن على 'الفطرة الإنسانية النقية'. هذه الفطرة هي الطبيعة الأصلية النقية التي خلق الله الإنسان عليها؛ وهي طبيعة تحمل ميلًا فطريًا للتوحيد، والبحث عن الحق، والفضائل الأخلاقية، ومعرفة الخالق. يقول الله تعالى في سورة الروم، الآية 30: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ". تشير هذه الآية إلى أن الإنسان يولد بميل داخلي نحو الدين الحق والروحانية. هذه الفطرة هي بمثابة نور داخلي يهدي الإنسان نحو الخير والبر، ويمهد له طريق السعادة. من هذا المنظور، يتمتع الإنسان بطبيعته بميول خيرية وقدرة على فهم الحق وقبوله. ومع ذلك، يتناول القرآن أيضًا جانبًا آخر من الوجود البشري: قابليته للخطأ والزلل، وحتى ظلم النفس. وهذا لا يعني كونه سيئًا بطبيعته، بل يرجع إلى نقاط الضعف، والنسيان، والعجلة، والتأثر بالوساوس الداخلية (النفس الأمارة بالسوء) والخارجية (الشيطان والدنيا). يقول تعالى في سورة الأحزاب، الآية 72: "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا". تعبير "ظلومًا جهولًا" في هذه الآية لا يعني أن الإنسان ظالم وجاهل بطبيعته، بل يشير إلى أنه في مواجهة الأمانة الإلهية العظيمة (الاختيار والمسؤولية)، قد يخطئ الإنسان بسبب جهله أو ظلمه لنفسه. هذه الصفة في الإنسان هي صفة عارضة وليست جوهرية. كما أن الآية 8 من سورة الشمس تعبر بجمال عن هذه الازدواجية: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿٧﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿٨﴾". هذه الآية تبين أن الله قد ألهم الإنسان القدرة على كل من الشرور والأخطاء (فجورها) والتقوى والخير (تقواها). وهذا يعني وجود القدرة والمعرفة لكلا المسارين في كيان الإنسان. هذا الإلهام هو في الواقع المعرفة الداخلية والقدرة على التمييز بين الخير والشر، وهو أمر ضروري لاختياره وحريته. يؤكد القرآن بوضوح على 'حرية الإرادة' للإنسان. هذه الإرادة الحرة هي حجر الزاوية في مسؤولية الإنسان. فالإنسان كائن مختار يمكنه اختيار طريق الهداية أو الضلالة. يقول تعالى في سورة الكهف، الآية 29: "فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ". وهذا الاختيار بحد ذاته يتطلب وجود القدرة على كلا المسارين. فالإنسان ليس مجبرًا على الخير ولا مجبرًا على الشر؛ بل هو في ميدان الاختبار الإلهي. لذلك، فإن نظرة القرآن للإنسان هي نظرة ديناميكية وموجهة نحو النمو. فالإنسان يولد برأس مال الفطرة النقية والإلهامات الإلهية، ولكنه في الوقت نفسه يواجه تحديات النفس الأمارة بالسوء، والوساوس الشيطانية، وجاذبية الدنيا. نجاح الإنسان في هذا المسار يعتمد على فهم هذين الجانبين من وجوده، وتقوية الفطرة النقية، ومحاربة الميول السلبية. التوبة والعودة إلى الله هي أيضًا الطريق الذي يضعه القرآن أمام الإنسان لتعويض الأخطاء والعودة إلى المسار الصحيح، وهي علامة على الرحمة والفضل الإلهي على الإنسان الذي قد يزل ولكن لديه القدرة على العودة. في النهاية، الإنسان في القرآن كائن في حالة صيرورة؛ كائن يمكنه بإرادته وبتوجيه إلهي أن يصل إلى ذروة الكمال، أو بتقليل من قيمته باتباع الميول السلبية. هذا التعقيد والديناميكية هو ما يميز مكانة الإنسان بين مخلوقات الله.
يُروى في روضة السعدي (البستان والگلستان) أن ملكًا عادلًا رأى في المنام ذات ليلة أن جميع خطاة العالم غارقون في الظلام والشقاء، إلا رجلًا فقيرًا كان منغمسًا في العبادة في زاوية مضيئة بنور ساطع. تعجب الملك كثيرًا من هذا الحلم وقال لنفسه: "كيف يعقل أن يخطئ كل هؤلاء البشر، ويهتدي واحد فقط؟" في الصباح، استدعى وزيره وقص عليه حلمه. قال الوزير بحكمة: "يا أيها الملك، كل إنسان يحمل في قلبه نورًا من الفطرة يدعوه إلى الخير، لكن وساوس النفس وزخرف الدنيا قد يحجبان هذا النور أحيانًا. ربما هذا الرجل الفقير، بسبب بعده عن مغريات الدنيا وقربه من الله، استطاع أن يحافظ على نور فطرته حيًا ويُنمّيه. الإنسان مختار، وطريق الخطأ والصواب كلاهما أمامه، ولكن رحمة الله دائمًا تركت بابًا مفتوحًا للتوبة والعودة، حتى يعود من شاء من الظلام إلى النور." أخذ الملك بنصيحة الوزير وعزم على السعي لإصلاح أحوال الناس وهدايتهم، مدركًا أن كل قلب يحوي بذرة خير، إذا رعيت واعتني بها، أثمرت.