الأخلاق في القرآن الكريم مطلقة وعالمية الجوهر، تنبع من الذات الإلهية وأوامرها، وتتجاوز مبادئها الزمان والمكان. بينما قد تظهر بعض المرونة في تطبيق أحكام معينة في ظروف خاصة، إلا أن هذا لا يعني نسبية المبادئ الأخلاقية نفسها.
في الإجابة على هذا السؤال العميق والمهم حول ما إذا كانت الأخلاق في القرآن الكريم مطلقة أم نسبية، يمكن القول بثقة تامة إن الأخلاق في إطار التعاليم القرآنية، في جوهرها وأساسها، مطلقة وعالمية. وينبع هذا الإطلاق من المصدر الإلهي والرباني لهذه المفاهيم. فالقرآن الكريم، بصفته كلام الخالق سبحانه وتعالى، يقدم مجموعة من المبادئ والقيم الأخلاقية التي تتجاوز الزمان والمكان والثقافات والميول الفردية للبشر. هذه المبادئ ثابتة وغير قابلة للتغيير، وتنطبق على جميع البشر في كل فترة من التاريخ وفي كل بقعة من بقاع الأرض. وقد وضع الله تعالى، بعلمه المطلق بالفطرة الإنسانية والحاجات الدائمة للبشر، قواعد تضمن سعادتهم في الدنيا والآخرة، وهذه القواعد في جوهرها ليست نسبية أو متوقفة على ظروف متغيرة على الإطلاق. هذا الإطلاق الأخلاقي في القرآن ينبع من التوحيد، أي وحدانية الله. فعندما يكون المصدر النهائي للخير والشر، والحق والباطل، والصواب والخطأ هو الله الحكيم العليم وحده، فإن المعايير الأخلاقية يجب أن تنبع من إرادته وأمره. وهذا يعني أن الأخلاق ليست أمراً تعاقدياً أو من صنع البشر بحيث تتغير بتغير المجتمعات أو وجهات النظر؛ بل هي حقيقة ثابتة وأبدية مصدرها الذات الإلهية الطاهرة التي لا نقص فيها. هذه الرؤية تنقذ الإنسان من الحيرة في مواجهة المعايير الأخلاقية البشرية المتغيرة، وتوفر له مرساة ثابتة وموثوقة للتمييز بين الصواب والخطأ. فالعدل، والصدق، والأمانة، والإحسان إلى الوالدين، والابتعاد عن الظلم، والامتناع عن الكذب، والزنا، والقتل، والسرقة، كلها قيم أكد عليها القرآن الكريم بوضوح وحزم. وقد حافظت هذه التأكيدات، عبر التاريخ وفي المجتمعات المختلفة، على نفس الشكل وبنفس القدر من الأهمية، وهي غير قابلة للتغيير. على سبيل المثال، مفهوم العدل في القرآن ليس نسبياً على الإطلاق. فالله يأمر بالعدل وينهى عن الظلم بشدة، دون أن يحدد معياراً لذلك بناءً على مصالح شخصية أو جماعية. ففي الآية 135 من سورة النساء يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ". هذه الآية توضح بجلاء أنه حتى في مواجهة أقرب الناس وحتى في مواجهة المصالح الشخصية، يجب أن يظل معيار العدل الإلهي قائماً دون أي اعتبار. هذا أمر مطلق لا يقبل أي تأويل نسبي. أو في الآية 8 من سورة المائدة التي تقول: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ". هذا الأمر يؤكد أيضاً على مطلقية مبدأ العدل في العلاقات الإنسانية، حتى مع الأعداء. كما يطرح القرآن في سورة الإسراء، الآيات 23 إلى 39، قائمة من الأوامر والنواهي الأخلاقية التي تدل بوضوح على الطبيعة المطلقة للأخلاق القرآنية. فالأمر بالتوحيد والإحسان إلى الوالدين، والنهي عن قتل النفس بغير حق، والابتعاد عن الزنا، والنهي عن أكل مال اليتيم، والوفاء بالعهد، وإعطاء الميزان والمكيال كاملاً، والابتعاد عن الكبر، كلها أمور طرحت دون أي قيد أو شرط. هذه الأحكام تمثل خطوطاً حمراء أخلاقية وقيماً أساسية غير قابلة للتغيير أو المساومة على الإطلاق، وهي واجبة التطبيق على جميع البشر. فالله سبحانه وتعالى أنزل هذه الأوامر ليس بسبب ظروف اجتماعية أو ثقافة معينة، بل بسبب طبيعة الوجود الإنساني وخيره وصلاحه الحقيقي. في المقابل، قد يثير البعض جدلاً حول نسبية الأخلاق مستشهدين بوجود بعض الأحكام الخاصة التي وُضعت في ظروف الضرورة أو لجماعات معينة. لكن هذا النهج لا يعدو كونه مغالطة. يجب فهم الفرق جيداً بين "المبدأ الأخلاقي المطلق" و"تطبيقه وتنفيذه في ظروف خاصة". فمثلاً، في الإسلام، حفظ النفس مبدأ مطلق، وأكل الميتة أو لحم الخنزير محرم. لكن إذا وجد شخص نفسه في حالة جوع شديد وتهددت حياته بالخطر، يجوز له الأكل منهما بقدر الضرورة. هذا استثناء في تطبيق الحكم، وليس تغييراً في أصل تحريم هذه المادة. فأصل التحريم لا يزال قائماً، لكن الضرورة، وللحفاظ على مبدأ أهم (حفظ النفس)، تسمح باستثناء مؤقت ومحدود. وهذا يدل على مرونة الشريعة في تحقيق مقاصدها العليا، وليس نسبية المقاصد أو المبادئ الأخلاقية نفسها. إضافة إلى ذلك، يؤكد مفهوم "الفطرة" في القرآن على وجود ميل داخلي وطبيعي نحو الخير والصلاح في كيان الإنسان. هذه الفطرة معيار داخلي وعالمي يدفع الإنسان نحو القيم الأخلاقية المطلقة. وعلى الرغم من أن البيئة والتربية قد تؤثران على هذه الفطرة، إلا أنهما لا تقضيان عليها أبداً. فالقرآن، بتذكيره بهذه الفطرة، يدعو الناس إلى العودة إلى هذه المعايير الطبيعية والأزلية. وهذه الدعوة بحد ذاتها دليل على إطلاقية الأخلاق، لأن فطرة الإنسان حافظت على طبيعة واحدة عبر التاريخ وفي أماكن مختلفة. وبناءً عليه، يمكن القول إن الأخلاق في القرآن الكريم ذات طبيعة مطلقة بشكل قاطع. وهذا الإطلاق يعني توفير إطار ثابت وإلهي للأوامر والنواهي يهدف إلى هداية الإنسان نحو الكمال والسعادة. وهذا لا يعني عدم وجود أي مرونة في تنفيذ الأحكام؛ بل المرونة في الحالات الخاصة والضرورية تهدف إلى الحفاظ على المبادئ العليا والمقاصد النهائية للشريعة، ولا تعني أبداً نسبية المبادئ الأخلاقية نفسها. فالمبادئ الأخلاقية القرآنية تشكل العمود الفقري لمجتمع سليم وإنساني، ولهذا السبب، تظل ثابتة ومستقرة وعالمية.
يُروى أن ملكًا ظالمًا، في سعيه للسلطة والثراء، كان يظلم رعيته كثيرًا ولم يتورع عن أي جور. فقد ضجت رعيته منه ولم يتبق لهم أمل في العدل. في ذلك الوقت، تحدث إليه رجل حكيم، من أولياء الله، وقال له: 'يا ملك! إنك الآن تتمتع بالقوة والجميع يخشونك، ولكن اعلم أن هذا الظلم لن تكون له عاقبة حسنة، وإن الله لا يحب الظالمين. فلو استوليت على العالم كله بالظلم، فسيأتي يوم تقف فيه وحيدًا بلا نصير أمام القاضي الحق، وفي ذلك اليوم لن تنقذك أية قوة.' الملك، الذي كان يفكر في سلطته الدنيوية فقط حتى ذلك الحين، استفاق من هذه الكلمات الحكيمة وفهم أن العدل والإنصاف لا ينبعان من خوف الناس، بل من أمر الخالق، وأن الظلم، في جوهره، باطل ومكروه، وله عواقب وخيمة دائمًا. فتاب من ذلك اليوم، وتخلى عن ظلمه، وسلك طريق العدل، وقضى ما تبقى من عمره بالصلاح. هذه القصة من بستان سعدي تذكرنا بحقيقة أن الجزاء والعقاب على الأعمال أمر ثابت ومطلق، ولا يتغير أبدًا بحسب مقتضيات الزمان أو هوى الملك.