لا، حب الذات ليس أنانية بالضرورة. القرآن يشجع على رعاية الروح والجسد للنمو الروحي وخدمة الله وخلقه، بينما يدين بشدة الأنانية التي تتجلى في الكبر والبخل وتجاهل حقوق الآخرين.
إن فهم مفهوم 'حب الذات' وتمييزه عن 'الأنانية' من منظور القرآن الكريم هو أمر عميق ودقيق للغاية. فالقرآن لا يعلمنا أن نتجاهل أنفسنا أو نكرهها، بل يشجع على 'حب الذات' المتوازن والبناء الذي يقوم أساساً على رعاية الروح والجسد لبلوغ القرب الإلهي والقيام بدور بناء في المجتمع. في المقابل، تشير 'الأنانية' إلى التركيز المفرط والحصري على المصالح الشخصية والملذات والرغبات، دون مراعاة حقوق الآخرين، أو الواجبات الإلهية، أو عواقب الأفعال الفردية على الجماعة. هذا النوع من الأنانية، الذي غالباً ما يصاحبه الغرور والكبر والجشع والبخل، مذموم بشدة في القرآن. من ناحية، يؤكد القرآن على أهمية 'حماية النفس' و'إنقاذ الذات'. فعلى سبيل المثال، في سورة التحريم، الآية 6، يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ". هذه الآية توضح بجلاء أن رعاية صحة المرء الروحية والجسدية، والسعي للنجاة من العذاب الإلهي، ليست أنانية بل مسؤولية أساسية. هذا النوع من 'حب الذات' يعني الارتقاء بالنفس، وتزكية الروح، وتنمية الفضائل الأخلاقية حتى يتمكن الفرد من الوصول إلى مقام 'النفس المطمئنة'؛ وهي نفس في سلام تطلب رضا ربها. وهذا يشمل العناية بالجسد كأمانة إلهية، واكتساب المعرفة، والسعي لتحقيق التطور الشخصي، شريطة أن يكون الهدف النهائي هو خدمة الله وخلقه. فالشخص الذي يحب نفسه حقاً لن يضحي بصحته الجسدية والروحية من أجل ملذات عابرة، بل سيسعى إلى الكمال الروحي. هذا الحب للذات يدفع الفرد نحو الأعمال الصالحة واجتناب الذنوب، مدركاً أن لكل عمل انعكاساً على روحه ومصيره. على النقيض من ذلك، يحارب القرآن بشدة مظاهر الأنانية والتعاظم الذاتي. فالأنانية في القرآن غالباً ما تعبر عنها مصطلحات مثل 'التكبر'، 'الغرور'، 'البخل'، 'الحرص'، و'حب الدنيا' المفرط. هذه السمات تتجذر في جعل الإنسان نفسه محور الكون، وتقديمه رغباته ومصالحه الخاصة على كل شيء آخر. ففي سورة لقمان، الآية 18، يحذر الله بوضوح: "وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ". هذه الآية تذم مباشرة الغرور والتبختر الناتجين عن الأنانية المفرطة. فالذي يرى نفسه أفضل من الآخرين، يتعدى على حقوقهم، ويسيء إليهم، ولا يستطيع السير في طريق العدل والإنصاف. البخل هو أيضاً مظهر بارز آخر من مظاهر الأنانية التي يذمها القرآن بشدة. ففي سورة النساء، الآية 37، نقرأ: "الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا". البخل هو نتيجة الحب المفرط للمال والذات، والذي يمنع الفرد من الإنفاق مما لديه في سبيل الله ومساعدة الآخرين. هذه الصفة لا تعيق نمو الفرد الروحي فحسب، بل تدفع المجتمع أيضاً نحو عدم المساواة والظلم. يشجع القرآن في آيات عديدة الناس على الإنفاق ومساعدة المحتاجين، وهو ما يتعارض تماماً مع الأنانية. فالإنفاق هو تجسيد 'الإيثار' و'تفضيل الآخرين على الذات'، والذي يعتبر من أسمى الفضائل الأخلاقية في الإسلام. لذلك، من المنظور القرآني، إذا كان حب الذات يعني العناية بصحة الروح والجسد، وتزكية النفس، والسعي للسعادة الأخروية، فهو ليس أنانية بل ضرورة. هذا النوع من حب الذات يدفع الفرد نحو المسؤولية تجاه نفسه، أسرته، ومجتمعه. أما إذا أدى هذا الحب للذات إلى الغرور، والكبر، والبخل، والجشع، وتجاهل حقوق الآخرين، فإنه يتحول إلى أنانية مذمومة، وهي جذر العديد من الفساد الأخلاقي والاجتماعي. يؤكد القرآن دائماً على التوازن والاعتدال؛ وهو توازن لا يتجاهل فيه الفرد نفسه تماماً ولا يعتبر نفسه محور الكون. بل يرى نفسه جزءاً من الكل، سعادته مرتبطة بسعادة الكل ورضا ربه. هذه الرؤية تؤسس علاقة قوية بين الفرد والمجتمع وتجعل حب الذات في خدمة المجتمع وعبودية الله. باختصار، يروج الإسلام لـ 'حب ذات صحي وبناء' يقوم على الارتقاء بالنفس والاستعداد لعبودية الله وخدمة الخلق. يشمل هذا الحب للذات الحفاظ على الكرامة الإنسانية، وتنمية الفضائل الأخلاقية، والسعي للوصول إلى الكمال. في المقابل، أي شكل من أشكال 'الأنانية' يؤدي إلى الاستكبار، والبخل، والظلم، وتجاهل حقوق الآخرين، محرم بشدة في القرآن. هذا التمييز الدقيق هو مفتاح الفهم الصحيح لعلاقة الإنسان بنفسه، وبالآخرين، وبخالق الوجود.
يُروى في گلستان سعدي أنه كان هناك ملك ثري وبخيل، كل همه كان جمع المال، وكان يرفض الإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين. كان يقضي لياليه وأيامه يفكر في كيفية الحفاظ على ثروته، ولم يجد السلام بسبب خوفه من نقصانها. في نفس المدينة، كان يعيش درويش بسيط القلب، ورغم أنه لم يكن يملك شيئًا، إلا أنه كان يقسم ما يحصل عليه مع الآخرين، وكان قلبه مليئًا بالقناعة والطمأنينة. في أحد الأيام، رأى الملك من نافذة قصره ذلك الدرويش وهو يبتسم ويتقاسم قطعة خبز مع سائل. قال الملك متعجباً: "كيف لهذا الذي لا يملك شيئًا أن يكون هادئًا وخالياً من الهموم، بينما أنا بكل هذه الثروة أعيش في خوف وقلق مستمرين؟" فأجاب أحد الحاضرين: "أيها الملك، هو وجد ثروته في العطاء وفي قلب غني بالله، وأنت وجدت ثروتك في الحبس والخوف؛ أحدهما حرر قلبه والآخر عبد لماله. سلام الدرويش يأتي من كونه يرى حب الذات في العطاء والنقاء، لا في التكديس والأنانية."