القرآن الكريم، بتأكيده على التفكر والتدبر وضرورة التثبت والتبين في قبول المعلومات، يضع أسسًا متينة لطلب الحقيقة بغض النظر عن العصر. تعلمنا هذه التعاليم أن نتصرف بحكمة أمام سيل المعلومات في العصر الحالي ونميز الحقيقة من الباطل.
في عالمنا المعاصر، الذي يُعرف بعصر المعلومات، تحيط بنا كميات هائلة من البيانات والأخبار من مصادر مختلفة في كل لحظة. من منصات التواصل الاجتماعي إلى وسائل الإعلام الإخبارية والمنصات الإلكترونية، تتدفق المعلومات بسرعة جنونية، وأصبح تمييز الحقيقة من الباطل، والصحيح من الخطأ، والنافع من الضار، أحد التحديات الأساسية التي تواجه البشرية. قد يبدو للوهلة الأولى أن القرآن الكريم، وهو كتاب نزل قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا، لا يمكن أن يقدم إجابة مباشرة لظواهر مثل «عصر المعلومات» أو «الأخبار الكاذبة»؛ لكن بالتعمق في الآيات الإلهية، ندرك أن تعاليم القرآن تتجاوز الزمان والمكان، وتقدم مبادئ وحلولًا عميقة وأساسية لطلب الحقيقة والتعامل بذكاء مع المعلومات في أي عصر، بما في ذلك عصرنا الحالي. أحد أهم المبادئ القرآنية في مجال طلب الحقيقة هو التأكيد المطلق على «العلم»، و«التفكر»، و«التدبر»، و«التعقل». يدعو القرآن الإنسان مرارًا وتكرارًا إلى التأمل في خلق السماوات والأرض، وفي آيات الله في الطبيعة، وفي آياته هو نفسه. هذا الدعوة إلى التفكر والتعقل هي أساس التمييز بين الحقيقة والأوهام. في آيات مثل «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» (محمد: ٢٤) أو «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (الرعد: ٣)، يؤكد الله على ضرورة التعمق والتدبر. هذا التأكيد يعني أن الإنسان لا ينبغي أن يقبل كل ما يسمعه أو يراه بشكل أعمى وبدون تفكر. في عصر المعلومات، يعلمنا هذا المبدأ أن نكون حساسين لمصادر معلوماتنا، وأن نتعمق في محتوى ما نقرأ ونسمع، وأن نتجنب السطحية والتسرع في التعامل مع الأخبار. طلب الحقيقة القرآني، قبل كل شيء، يبدأ بتنمية القدرات الفكرية والاستدلال المنطقي. المبدأ الحيوي الآخر الذي يطرحه القرآن لطلب الحقيقة في عصر المعلومات هو ضرورة «التبين» و«التحقيق» في الأخبار والمعلومات الواردة. تشير الآية السادسة من سورة الحجرات بوضوح وقاطع إلى هذا الأمر: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين). تقدم هذه الآية قاعدة ذهبية للتعامل مع المعلومات، خاصة في عصرنا. كلمة «فاسق» في هذه الآية تعني شخصًا قد خرج عن حدود الله وليس أهلًا للثقة، وفي عالم اليوم يمكن تعميمها على المصادر غير الموثوقة، والأخبار الكاذبة، والشائعات، والدعاية المضللة. يأمرنا القرآن بأن لا نتسرع في التعامل مع مثل هذه الأخبار، بل «نتبين»؛ أي أن نتحقق بدقة من صحة الخبر. الهدف من هذا التحقيق هو منع إلحاق الضرر بالآخرين والندم على التصرفات غير الواعية. في عصر الشبكات الاجتماعية وتطبيقات المراسلة، حيث تنتشر الأخبار (صحيحة كانت أو خاطئة) بسرعة فيروسية، يكتسب هذا الأمر الإلهي أهمية مضاعفة. فكل مشاركة أو إعادة نشر لخبر، قبل التأكد من صحته، يمكن أن يؤدي إلى انتشار الكذب وأضرار لا يمكن إصلاحها. بالإضافة إلى ذلك، يؤكد القرآن على مسؤولية الإنسان عن أقواله وأفعاله. يقول الله في الآية ٣٦ من سورة الإسراء: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا» (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا). تبين هذه الآية بوضوح أن الإنسان مسؤول عن كل ما يسمعه، ويراه، ويقبله في قلبه، وينطق به بلسانه. تتسع هذه المسؤولية في عصر المعلومات، حيث أصبح إنتاج المحتوى ونشره سهلًا للغاية. نحن مسؤولون عن صحة المعلومات التي ننتجها أو نعيد نشرها. فنشر الأكاذيب والشائعات عمدًا أو حتى بغير عمد، ليس فقط ذنبًا أخلاقيًا، بل يمكن أن تكون له عواقب اجتماعية ونفسية مدمرة. لذلك، يدعونا القرآن إلى امتلاك «وعي معلوماتي» و«وعي إعلامي» بالمعنى القرآني؛ أي القدرة على تمييز المعلومات وتقييمها واستخدامها بشكل صحيح. كما يشدد القرآن على أهمية «الصدق» والابتعاد عن «الكذب». الصدق هو إحدى الصفات البارزة للمؤمنين والأنبياء، بينما يُعد الكذب من الرذائل الأخلاقية. في عصر المعلومات، يمكن أن يظهر الكذب في شكل أخبار مزيفة، أو دعاية مضللة، أو تضليل، أو حتى إساءة استخدام الهويات الرقمية. يعلمنا القرآن ألا نكتفي بتجنب الكذب بأنفسنا، بل أن نقف ضده ولا نسمح بأن تتلوث مساحة المجتمع بالأكاذيب والخداع. فالحق دائمًا ينتصر على الباطل، ويقدم القرآن نفسه بصفته «الحق» (الحقيقة المطلقة) ويدعو إلى اتباعه. أخيرًا، طلب الحقيقة في القرآن متجذر في «التقوى» و«البصيرة». فالشخص التقي، الذي يرى الله دائمًا مراقبًا لأعماله، يتصرف بحذر أكبر عند التعامل مع المعلومات ويتجنب نشر ما ليس متأكدًا من صحته. تمنح التقوى الإنسان بصيرة لتمييز الحق من الباطل. كما تقول الآية ١٨ من سورة الزمر: «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ» (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب). تظهر هذه الآية أهمية الاستماع إلى وجهات نظر مختلفة ثم اختيار الأفضل والأكثر صحة منها، وهذا يتطلب تفكيرًا عميقًا وبصيرة. في الختام، على الرغم من أن القرآن لم يتحدث صراحة عن «عصر المعلومات»، إلا أنه يقدم دليلًا لا مثيل له لطلب الحقيقة في هذا العصر المضطرب، من خلال عرض مبادئ عالمية وخالدة مثل ضرورة التحقيق والتبين، والمسؤولية عن الأقوال، والتأكيد على التفكر والتعقل، وقيمة الصدق والتقوى. تعلمنا هذه التعاليم ألا نكون مجرد مستهلكين سلبيين للمعلومات، بل أن نسعى بذهن ناقد ومسؤول وملتزم بالحقيقة، في بحر المعلومات اللامتناهي للبحث عن نور الحقيقة، ونمنع أنفسنا من الوقوع في فخ التضليل والجهل. هذا الإطار القرآني لا يحمينا فقط من أضرار عصر المعلومات، بل يحولها إلى فرصة للنمو الفكري والروحي.
يروى أنه في إحدى المدن، كان يعيش رجل حكيم، يتجنب دائمًا التسرع في الحكم وإعادة ترديد الكلام بلا أساس. ذات يوم، وصلت إلى سمعه أخبار غير سارة ومهينة عن جار فاضل. بدأ أهل المدينة، دون تردد أو تحقيق، يتداولون هذه الأخبار، وكل يضيف إليها شيئًا، مستهدفين سمعة الجار. لكن هذا الرجل الحكيم، قبل أن ينطق بكلمة أو يصدر حكمًا، ذهب بهدوء وحكمة إلى الجار وسأله عن حقيقة الأمر، وأزال كل الالتباسات. حينها، علم أن الخبر كان مجرد سوء فهم أو افتراء بقصد السوء. فقال للناس: «يا أصحابي، سماع أي خبر سهل، لكن تمييز صحته هو عمل الحكماء وأهل البصيرة. إياكم أن نطلق بألسنتنا سهامًا على كرامة أحد، قبل أن نعرف الحقيقة ونتحقق بأنفسنا.» ومنذ ذلك الحين، اتخذ أهل المدينة منه قدوة في تجنب التسرع وطلب الحقيقة، وقلّت الشائعات التي لا أساس لها بينهم، وعم السلام المجتمع. هذه الحكاية تذكرنا بقول الشيخ الجليل سعدي: «الكذب المصلحي، خير من الصدق المفسد.» وأن الصدق في القول والعمل، مقرونًا بالتحقيق، يقود إلى الفلاح.