القرآن الكريم ينهى بشدة عن الحكم على الآخرين، فهذا السلوك ينبع من سوء الظن، والكبر، ووساوس الشيطان. الله وحده له الحق المطلق في الحكم، وينبغي على الإنسان التركيز على إصلاح نفسه بدلاً من البحث عن عيوب الآخرين.
في تعاليم القرآن الكريم، يحظى موضوع الحكم على الآخرين وإصدار الأحكام بشأنهم بأهمية خاصة، ويحذر البشر صراحة من الانخراط في هذا السلوك. يؤكد القرآن على الحقيقة الجوهرية بأن الله وحده يمتلك الحق المطلق والنهائي في الحكم، لأنه وحده يعلم كل الأمور الظاهرة والخفية، ويعلم النوايا وبواطن الأمور. فالبشر، بما لديهم من معرفة محدودة، وتحيزات متأصلة، وعدم إدراك للظروف الحقيقية ودوافع الآخرين، لا يمكنهم أبدًا إصدار حكم عادل وكامل. لذلك، فإن الانشغال المستمر بالحكم على الآخرين ليس فقط فعلاً مذمومًا في نظر الله، بل ينبع أيضًا من نقاط ضعف بشرية داخلية ووساوس شيطانية، وقد تناولها القرآن بالتفصيل. من أهم الأسباب التي يحددها القرآن كجذر لهذا السلوك غير المرغوب فيه هو "سوء الظن" أو الظن السيئ بالآخرين. في سورة الحجرات، الآية 12، يقول الله تعالى صراحة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَیُحِبُّ أَحَدُکُمْ أَن یَأْکُلَ لَحْمَ أَخِیهِ مَیْتًا فَکَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِیمٌ". هذه الآية توضح بجلاء أن جذور العديد من الأحكام تكمن في الظنون والشكوك التي لا أساس لها والتي تتشكل في ذهن الإنسان. هذه الظنون السيئة تمهد الطريق للتجسس على حياة الآخرين، ثم الغيبة والافتراء عليهم، وكل هذه الأفعال الثلاثة تؤدي مباشرة إلى أحكام غير سليمة. وتشبيه الغيبة بأكل لحم الأخ الميت يدل على غاية قبح وبشاعة هذا الفعل في نظر الله، وهو فعل يدوس كرامة الإنسان واحترامه. سبب آخر هو "الكبر" والشعور بالتفوق الذي يدفع الإنسان إلى رؤية نفسه أعلى من الآخرين والسعي وراء عيوبهم. في سورة الحجرات، الآية 11، يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَن یَکُونُوا خَیْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن یَکُنَّ خَیْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَکُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِیمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ یَتُبْ فَأُولَٰئِکَ هُمُ الظَّالِمُونَ". هذه الآية تتناول مباشرة جذور الأحكام المهينة والساخرة، وتحذر من أننا لا يمكننا أبدًا معرفة القيمة الحقيقية للأشخاص عند الله. فربما يكون الشخص الذي يبدو لنا تافهاً، أكثر تقرباً وفضيلة عند الله. هذا النوع من الأحكام يدل على الكبر والغرور الذي يبعد الإنسان عن طريق العبودية والتواضع. وفي سورة لقمان، الآية 18، تُقدم أيضًا نصيحة لتجنب الكبر والغرور: "وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ". الكبر حاجز كبير في مسار النمو الروحي، والشخص المتكبر يميل أكثر إلى الحكم على الآخرين والعثور على عيوبهم لإخفاء نقاط ضعفه أو لتعظيم نفسه. بالإضافة إلى ذلك، تلعب وساوس الشيطان (إبليس) دوراً حاسماً في دفع الإنسان نحو الأحكام الظالمة. فالشيطان يسعى باستمرار لإثارة الفرقة والعداوة بين المؤمنين، ومن أدواته التشجيع على سوء الظن، والبحث عن العيوب، وفي النهاية إصدار أحكام خاطئة. إذا غفل الإنسان عن ذكر الله ولم يتخذ التقوى سبيلاً، فإنه يقع بسهولة في فخ هذه الوساوس، وينشغل ذهنه بدلاً من التركيز على إصلاح نفسه، في رؤية عيوب الآخرين والحكم عليهم. وبدلاً من الحكم على الآخرين، يوصي القرآن الكريم المؤمنين بالتركيز على إصلاح أنفسهم، ومعالجة عيوبهم، وتذكر دائماً أن عودة الجميع إلى الله، وهو وحده الذي سيدقق في الأعمال والنوايا يوم القيامة. الهدف من هذه التوصيات هو بناء مجتمع قائم على الرحمة، والتعاطف، والاحترام المتبادل، والعفو، حيث ينشغل الأفراد بالبناء ومساعدة بعضهم البعض بدلاً من تدمير بعضهم البعض. إن هذا التجنب للحكم لا يساهم فقط في الصحة النفسية والروحية للفرد، بل يعزز أيضًا العلاقات الاجتماعية ويقوي الأخوة والأخوات في المجتمع الإيماني. في النهاية، عدم الحكم على الآخرين هو علامة على التواضع، ووعي الله، واحترام خصوصية الأفراد، وهي كلها من الفضائل الأخلاقية التي يؤكد عليها القرآن.
يُروى أنه كان هناك عابدٌ منشغلٌ بالعبادة باستمرار، وكان يرى نفسه دائمًا أفضل من الآخرين. في أحد الأيام، مر برجل كان مشهوراً بين الناس بارتكابه لذنب ما. نظر العابد إلى الرجل بتكبر وازدراء، واستاء من نفسه كيف يمكنه أن يرى مثل هذا العاصي. الرجل العاصي، الذي أحس بنظرة العابد، رفع رأسه إلى السماء بقلب منكسر وصوت مرتجف قائلاً: «يا رب! اغفر لهذا العابد كبره، واغفر لي ذنبي.» وفي تلك الليلة بالذات، رأى العابد في منامه نداءً يقول له: «لقد غفرنا لذلك الرجل العاصي لتواضعه، وأبطلنا جميع أعمالك بسبب كبريائك وازدرائك.» هذه القصة اللطيفة من سعدي، تذكرنا بأن الحكم النهائي لله وحده، ويجب ألا نبتعد عن الرحمة الإلهية بسبب أحكامنا وكبريائنا، فربما يكون القلب المنكسر أفضل من آلاف الطاعات غير المخلصة.