يرتكب الإنسان المعاصي رغم علمه بخطئها بسبب ميل النفس الأمارة بالسوء، وساوس الشيطان، حب الدنيا، وضعف الإيمان. لكن باب التوبة والعودة مفتوح دائماً.
السؤال المطروح يلامس أحد أعمق القضايا وأكثرها تعقيداً فيما يتعلق بطبيعة الإنسان وعلاقته بخالقه. يقدم القرآن الكريم، بمنظوره العميق، إجابات على هذا السؤال من جوانب متعددة. في البداية، يجب أن ندرك أن الله خلق الإنسان بالإرادة الحرة والقدرة على الاختيار. هذه الحرية في الاختيار هي حجر الزاوية في الابتلاء الإلهي. فالإنسان يستطيع أن يختار طريق الهداية والطاعة، أو يميل نحو الضلال والمعصية. ولكن لماذا نقع في الخطيئة على الرغم من علمنا بأنها خطأ؟ أحد أهم الأسباب هو وجود "النفس الأمارة بالسوء" في كيان الإنسان. النفس الأمارة هي جزء من الروح البشرية تدفع صاحبها نحو الشهوات، الغرائز، والرغبات الدنيوية. يقول الله تعالى في سورة يوسف، الآية 53: "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم). هذه الآية تشير بوضوح إلى الميل الفطري للنفس نحو الشر. إذا لم يتم التحكم في هذا الميل بالإيمان القوي والتقوى، فإنه يمكن أن يجر الإنسان إلى المعصية. العامل الثاني القوي جداً هو وساوس الشيطان. الشيطان، العدو اللدود للإنسان، أقسم منذ خلق آدم عليه السلام أن يضل البشر. وهو يستخدم تكتيكات مختلفة لتجميل المعصية في نظر الإنسان، ويقلل من شأن عواقبها، ويحول الأمل في رحمة الله ومغفرته إلى وسيلة لتبرير الذنب. يشير القرآن في آيات عديدة إلى دور الشيطان، ومنها في سورة الأعراف الآية 27 حيث يقول: "يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ" (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة). يستغل الشيطان نقاط ضعف الإنسان، بما في ذلك الطمع والكبر والشهوة والغضب، للتسلل، ويختار لحظات الغفلة وضعف الإيمان لوسوسته. حب الدنيا وملذاتها الزائلة هو عامل مهم آخر. الإنسان بطبيعته يميل إلى المال، المكانة، الجمال، والمتع الدنيوية. إذا تجاوز هذا الميل حدوده وتحول إلى "حب الدنيا"، فإنه يمكن أن يغفل عن القيم الأخروية ويدفعه نحو ارتكاب المعاصي لتحقيق هذه الملذات. يقول القرآن في سورة آل عمران الآية 14: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ" (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب). هذه الآية توضح كيف يمكن لزينة الدنيا أن تسبب الغفلة عن الحقيقة النهائية. ضعف الإيمان والغفلة عن ذكر الله من الجذور الأساسية لارتكاب المعاصي. عندما يضعف إيمان الإنسان وتتلاشى ذكرى الله واليوم الآخر والحساب، تضعف الحاجز الداخلي أمام المعصية. قد ينسى الإنسان في لحظة المعصية أن الله مطلع على أعماله وأنه سيحاسب يوماً ما. وقد أشار القرآن مراراً إلى أهمية الذكر وذكر الله للحفاظ على التقوى. في سورة طه الآية 124 يقول: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ" (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى). هذا يسلط الضوء على العواقب الوخيمة لنسيان الخالق. في بعض الأحيان، يمكن أن يؤدي الجهل وعدم المعرفة الكاملة بعواقب المعصية إلى ارتكابها. قد يعلم الشخص بشكل عام أن الفعل خاطئ، لكنه لا يدرك عمق قبحها وأبعاد فسادها وتداعياتها الدنيوية والأخروية بشكل صحيح. يمكن أن يكون هذا الجهل ناتجاً عن عدم السعي لاكتساب المعرفة الدينية أو الإهمال في فهم الأحكام الإلهية. في مثل هذه الحالات، يلعب التوعية والتربية دوراً أساسياً. بالإضافة إلى ذلك، قد يعتمد الإنسان خطأً على رحمة الله الواسعة، معتقداً أنه حتى مع ارتكاب الذنوب الكبيرة سيُغفر له دون توبة حقيقية. في حين أن رحمة الله لا حدود لها، إلا أن هذه الرحمة مشروطة بالتوبة والندم الصادقين. الاعتماد على الرحمة دون التوبة هو نوع من خداع الذات الذي يوسوس به الشيطان. في سورة الزمر الآية 53 جاء: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم). هذه الآية، بينما تدعو إلى الأمل، تشير أيضاً إلى ضرورة العودة والتوبة. في النهاية، يبقى الاختيار الفردي هو الذي يحدد، على الرغم من معرفة الخير والشر، أي طريق يختار الإنسان. يقدم الإسلام حلولاً لمواجهة هذه الموجهات: تقوية الإيمان من خلال العبادة، التأمل في آيات الله، تزكية النفس، الاستعاذة بالله من شر الشيطان، والاستغفار والتوبة بعد كل زلة. هذا الطريق صعب، ولكن نتيجته هي السلام في الدنيا والسعادة الأبدية في الآخرة. يجب على الإنسان أن يكون دائماً في جهاد مع النفس ومواجهة لوساوس الشيطان حتى يتمكن من التغلب على الميل إلى المعصية والوصول إلى مقام القرب الإلهي. هذا الصراع الداخلي جزء لا يتجزأ من مسار الكمال والنمو الروحي للإنسان، وهو ذو أهمية كبيرة من منظور القرآن. لذا، فإن فهم أن الإنسان يرتكب الذنب باختياره وتحت تأثير عوامل مختلفة، ولكن في نفس الوقت تتاح له فرصة التوبة والعودة، هو مفتاح فهم هذه الظاهرة.
في گلستان سعدي، يُروى أن ملكاً عادلاً كان له وزير حكيم. ذات يوم، كان الوزير يبحث عن حل لعادات سيئة لأحد حاشية الملك، الذي لم يتوقف عنها رغم علمه بالعواقب الوخيمة لأفعاله. حكى الوزير: "ذات يوم رأيت رجلاً ثرياً يجلس عند بئر، يئن من العطش. كان يحمل كوب ماء بيده، ولكن بدلاً من الشرب، كان يلقي عملاته الذهبية، الواحدة تلو الأخرى، في ذلك البئر! كان يعلم أنه سيموت إذا لم يشرب، لكن الجشع والطمع لم يتركاه لحظة. وعندما سُئل لماذا يفعل هذا، قال: 'حلاوة هذه العملات قد أسرت قلبي لدرجة أنني نسيت مرارة الموت.'" عندما سمع الملك هذه الحكاية، أدرك كيف يمكن لملذات الدنيا الزائلة أن تعمي عيون الإنسان عن العواقب المدمرة لأفعاله، حتى لو كان على علم بها. تذكرنا هذه القصة أن الإغراءات والعادات السيئة، رغم العلم بخطئها، تدفع الإنسان نحو الهلاك، تماماً مثل العملات الذهبية في يد الرجل العطشان. ولا يمكن أن يحرره من هذا الفخ إلا ذكر الله والإرادة القوية.