يعزو القرآن تطبيع الذنوب إلى عوامل مثل اتباع الهوى، الغفلة عن الله، ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزخارف الشيطان والدنيا. هذه العوامل مجتمعة تقلل من قبح الذنب، مما يجعله ممارسة اجتماعية عادية.
من منظور القرآن الكريم، ظاهرة تطبيع الذنوب في المجتمع، وإن لم تُذكر بلفظ «تطبيع» صريحًا، إلا أن جذورها وعواملها قد تم شرحها بعمق. فالقرآن مرآة تعكس كلاً من طبيعة الإنسان وديناميكيات المجتمعات، موضحًا كيف تتحول الانحرافات، بمرور الوقت، من تجاوزات فردية إلى تشوهات اجتماعية، ثم إلى أمور «عادية» بل و«مقبولة». هذه العملية ليست حدثًا مفاجئًا، بل هي نتيجة سلسلة من العوامل النفسية والروحية والاجتماعية التي يشير إليها القرآن. أحد أهم الأسباب التي يؤكد عليها القرآن هو «اتباع الهوى والشهوات». فعندما يتبع الناس أهواءهم ورغباتهم الذاتية بدلاً من الهداية الإلهية والعقل السليم، تتلاشى الحدود الأخلاقية. يحذر القرآن مرارًا وتكرارًا من أن اتباع الهوى والشهوات يخرج الإنسان عن طريق الحق ويقوده إلى الانحطاط. على سبيل المثال، في الآية 27 من سورة النساء، يقول الله تعالى: «وَاللَّهُ یُرِیدُ أَن یَتُوبَ عَلَیْكُمْ وَیُرِیدُ الَّذِینَ یَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِیلُوا مَیْلًا عَظِیمًا» (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً). عندما يصبح هذا الاتباع للهوى ظاهرة جماعية، فإن الذنوب التي تنبع من هذه الميول لم تعد تُعتبر قبيحة أو مستنكرة، بل تتجلى تدريجيًا كجزء من الحياة اليومية وحتى يُنظر إليها على أنها «حق» للفرد. وهذا يؤدي إلى حلقة مفرغة؛ فكلما ازداد ارتكاب الذنب، قلّ قبحه وتطبيع أكثر، وكلما تطبّع، ازداد عدد الأفراد الذين يجرؤون على ارتكابه. العامل الثاني الحاسم هو «الغفلة عن ذكر الله ويوم المعاد». يعتبر القرآن الكريم الغفلة أصل الكثير من الانحرافات. فعندما يفقد المجتمع وعيه بوجود الله، والمساءلة، ويوم القيامة، يتضاءل الخوف من العقاب الإلهي. هذا النسيان الروحي يُضعف الدوافع الداخلية لتجنب الذنوب والقيام بالأعمال الصالحة. في الآية 179 من سورة الأعراف، يُشبّه الله تعالى الذين يغفلون عن آياته ويضلّون بسبب عدم استخدامهم الصحيح لقواهم الإدراكية (القلوب، الأعين، الآذان) بالأنعام: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِیرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا یَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْیُنٌ لَّا یُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا یَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ کَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ» (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون). هذه الغفلة الجماعية تُهيئ التربة لانتشار الذنوب، لأنه لم يعد هناك وازع داخلي قوي أو خوف من العواقب الأخروية يردعها. فالمجتمع الذي يغفل عن ذكر الله يفقد معاييره الأخلاقية، وتتغلغل الذنوب تدريجياً في نسيجه. العامل الثالث، وربما الأهم على مستوى المجتمع، هو «ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». يؤكد القرآن على هذه الفريضة كخاصية أساسية للأمة الإسلامية وعامل سعادة المجتمع. ففي الآية 104 من سورة آل عمران، يقول الله تعالى: «وَلْتَکُن مِّنکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَى الْخَیْرِ وَیَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنکَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). عندما يُضعف هذا العمود الفقري الأخلاقي للمجتمع، أي عندما يصبح الأفراد غير مبالين بالانحرافات ويلزمون الصمت، فإن الذنب ينمو بلا رادع. تُشير الآية 79 من سورة المائدة صراحة إلى بني إسرائيل الذين حلت عليهم لعنة الله لأنهم: «کَانُوا لَا یَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنکَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا کَانُوا یَفْعَلُونَ» (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون). هذا اللامبالاة الجماعية بالذنب هي أكبر عامل في تطبيعه. فإذا لم يُنبّه أحدٌ على خطأ، ولم يُظهر الآخرون أي رد فعل، فقد يتصور المخطئ أن فعله ليس خاطئاً، وقد يصبح قدوة للآخرين. رابعاً، «تزيين الشيطان وتأثير رفقاء السوء». الشيطان عدوٌ مبين للإنسان، ويحاول دائمًا أن يُجمّل الأفعال السيئة في عين الإنسان ويوسوس له بالذنب. في الآية 63 من سورة النحل، يقول الله تعالى: «تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَیَّنَ لَهُمُ الشَّیْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِیُّهُمُ الْیَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ» (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم). هذه الوساوس الشيطانية تكتسب قوة تدميرية أكبر عندما تقترن ببيئة فاسدة ورفقاء غير صالحين. فالمجتمع الذي تُروّج فيه القيم الشيطانية مثل الأنانية وحب المال واللذة، هو بيئة خصبة لنمو الذنوب وتطبيعها. خامساً، «حب الدنيا والغفلة عن الآخرة». عندما يُقدم حب الدنيا ومظاهرها على حب الله والقيم الأخروية، يصبح الإنسان مستعدًا للتخلي عن المبادئ الأخلاقية والأحكام الإلهية لتحقيق أهدافه الدنيوية. في الآية 38 من سورة التوبة، يُعاتب الله تعالى الذين يتثاقلون عن الجهاد ويتعلقون بالدنيا: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا مَا لَکُمْ إِذَا قِیلَ لَکُمُ انفِرُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِیتُم بِالْحَیَاةِ الدُّنْیَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا فِی الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِیلٌ» (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل). هذه النظرة المادية تتسبب في تطبيع العديد من الذنوب، مثل الربا والرشوة والكذب والخداع، والتي قد تبدو أنها تحقق منافع دنيوية، بحيث لا تصبح عادية فحسب، بل تُقبل كأدوات للنجاح والتقدم في المجتمع. باختصار، تطبيع الذنوب في المجتمع من منظور القرآن، هو نتيجة تقارب عدة عوامل: ضعف الإيمان والغفلة عن الله، اتباع الهوى، اللامبالاة تجاه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزخارف الشيطان والدنيا. يحذر القرآن المؤمنين من ضرورة اليقظة الدائمة لهذه العوامل، والمقاومة الجماعية لانتشار الذنوب من خلال التقوى والوعي والمسؤولية الجماعية، وبناء مجتمع يقوم على القيم الإلهية. إن مكافحة تطبيع الذنب تتطلب العودة إلى تعاليم القرآن الأصيلة والعمل بها في جميع جوانب الحياة الفردية والاجتماعية.
يُروى أن ملكاً في الهند، بعد فترة من إهمال شؤون رعيته، استشار وزراءه قائلاً: «لقد فسد الناس وأصبحوا يعيشون في ترف وغفلة. كيف لي أن أصلح هذا الوضع؟» قال أحد الوزراء: «بالشدة والقوة». وقال آخر: «بإثارة الخوف». وقال ثالث: «بجعل بعض الأفراد عبرة». لكن الوزير الحكيم أجاب: «يا أيها الملك! الناس مرآة لحاكمهم. إذا كان النبع صافياً، سيكون النهر صافياً كذلك. إذا كنت ترغب في العدل والصلاح من شعبك، فكن أنت عادلاً وصالحاً أولاً». تذكرنا هذه القصة أنه إذا غفل الحكام أو أصحاب النفوذ في المجتمع عن الذنوب والانحرافات، أو حتى تورطوا فيها بأنفسهم، فإن تلك الذنوب تتطبع تدريجياً بين الناس، وتفقد قبحها؛ لأن الناس غالباً ما ينظرون إلى طريقة وسلوك كبرائهم، وإذا بدا الطريق الخاطئ عادياً، فإنهم يتقبلونه. لذا، لإصلاح المجتمع، يجب البدء بالنفس، وبإيقاظ الضمائر، لمنع قبح الأمور من أن يصبح عادياً.